عندما يتحدث السياسي الواقعي بمثالية الواقعية السياسية...

الكلام الذي قدّمه نيجيرفان بارزاني في الجلسة النقاشية ضمن فعاليات منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2025 الذي عقدته الجامعة الأميركية بدهوك، والذي انطلقت فعالياته هناك ، تحت عنوان: "الفوضى المسيّرة؛ شرق أوسط جديد".والذي نظمته الجامعة الأمريكية في كوردستان تحت إشراف دولة السيد مسرور بارزاني رئيس وزراء إقليم كوردستان وبحضور عدد كبير من الضيوف من العراق وإقليم كوردستان ودول العالم، لم يكن مجرد مداخلة بروتوكولية. كان رؤية مكتملة، مبنية على خبرة طويلة في قراءة الأزمات، وعلى إدراك عميق لتوازنات القوى في الشرق الأوسط.

نوفمبر 19, 2025 - 18:55
عندما يتحدث السياسي الواقعي بمثالية الواقعية السياسية...

هذه ليست لغة العواطف، وليست لغة الشعارات. هي لغة الواقعية السياسية كما يفهمها صانع قرار يعيش في منطقة ملتهبة، ويعرف أن السياسة ليست نوايا فقط، بل إدارة تعقيد. وفي الوقت نفسه، كان في كلامه مستوى من المثالية الهادئة، المثالية التي لا تستند إلى رغبة، بل إلى حسابات مدروسة.

نيجيرفان بارزاني قدّم نفسه كسياسي يعرف حدود القوة، ويعرف أيضاً مدى تأثير الحوار. قال بوضوح إن سياسة إقليم كوردستان كانت دائماً أن يكون عاملاً للسلام والاستقرار، وليس طرفاً في النزاعات. هذا المبدأ لم يُطرح بوصفه توصية أخلاقية، بل بوصفه ركيزة استراتيجية. في بيئة لا تعرف الاستقرار، يصبح التمسك بالاستقرار سلوكاً سياسياً واعياً، وليس موقفاً عاطفياً. الإقليم، من وجهة نظره، يستطيع أن يحمي مصالحه عبر الحياد البنّاء، وعبر صناعة مساحة آمنة بين صراعين.

وفي قراءته لطبيعة الصراعات، بدا واضحاً أنه يتعامل مع الحرب كأداة فقدت قيمتها. قال إن القتال لم يعد يجلب سوى الدمار، وإن القضايا الكبرى في الشرق الأوسط تحتاج إلى تفكير سليم، وحوار، ومسارات سياسية طويلة الأمد. هذه العبارة تكشف عمقاً في فهمه للتغيرات البنيوية في المنطقة. الأنظمة التي كانت تراهن على السلاح تجد نفسها الآن أمام معادلة جديدة. التكلفة أكبر من المكاسب. القدرة المحدودة على الحسم جعلت أغلب النزاعات سجينة الاستنزاف.

من هنا تبدو دعوته للحوار ليست هروباً من المواجهة، بل استيعاباً لطبيعة المرحلة. السياسي الواقعي يعرف أن الحوار في هذه اللحظة ليس تنازلاً، بل إعادة تعريف للقوة. فالقوة اليوم لم تعد مرتبطة بالتحركات العسكرية، بل بالقدرة على بناء ممرات للتهدئة، وبالقدرة على حماية المصالح عبر استقرار سياسي.

حديثه عن قرار مجلس الأمن بشأن غزة لم يكن تعليقاً ديبلوماسياً. كان وضعاً لهذا الملف ضمن سياق أوسع. قال إننا سعداء بأن هناك خطوة أولى لحل مشكلات الشرق الأوسط، وخاصة غزة. هذا يعني أن نظرته للمنطقة ليست مجزأة. يدرك أن أي حل مرحلي في غزة يمكن أن يشكل تحولاً في بنية الصراع الإقليمي، وأن أي تهدئة في هذه البقعة ستنعكس على العراق، وعلى كوردستان، وعلى تركيا، وعلى إيران، وعلى كل دولة ترتبط مباشرة أو غير مباشرة بهذه الجغرافيا المضطربة.

الواقعية السياسية هنا ليست تحليلاً مجرداً. إنها قراءة تربط الملفات ببعضها، وتتفهم أن القرار الدولي، مهما كان محدوداً، يمكن أن يشكل نقطة انطلاق لتوازن جديد. وهو بذلك يضع الإقليم ضمن معادلة أوسع، معادلة تتضمن المبادرات الدولية، والتحولات التي تصنعها القوى الكبرى.

وعندما تحدث عن الولايات المتحدة بوصفها قوة يمكنها أن تلعب دوراً مهماً وجاداً في الشرق الأوسط، لم يكن يقدّم دعماً سياسياً مجانياً. كان يعيد تثبيت قاعدة واقعية. الولايات المتحدة تملك حضوراً عسكرياً، وقراراً دبلوماسياً، ونفوذاً اقتصادياً، ورصيداً تاريخياً في المنطقة. لذلك فإن دورها، من وجهة نظره، ليس خياراً، بل عنصر من عناصر المعادلة الإقليمية. أي تجاهل لهذه الحقيقة سيكون قراءة ناقصة.

السياسي الواقعي يدرك أن التحولات لا تُصنع داخل الفراغ. الولايات المتحدة، مهما تغيرت إدارتها، تشكل وزناً نوعياً. لذلك، فإن إشراكها في مسار الاستقرار ليس تعويلاً على الخارج، بل توظيف لعامل موجود أصلاً. هذه هي الواقعية السياسية التي لا تتجاهل العوامل، ولا تبالغ في تقدير الذات، ولا تتخيل حلولاً معزولة عن تلك القوى التي تحرك الجغرافيا.

وحين انتقل إلى الحديث عن العلاقة بين أربيل وبغداد، قدّم قراءة عملية. قال إنهم يريدون حل مشكلات الإقليم مع بغداد سلمياً، وإن الإقليم أثبت أنه عامل استقرار. هذا الخطاب موجه لجمهورين. الأول هو الداخل الكوردستاني، والثاني هو الدولة العراقية ومؤسساتها الاتحادية. الرسالة تقول إن الإقليم لا يبحث عن صراع جديد. هو لا يقترب من بغداد من باب الاستجداء، ولا من باب التحدي. بل من باب الشراكة.

القضية ليست في التفاوض ذاته، بل في كيفية التفاوض. لذلك قال إن القوى الكوردستانية يجب أن تذهب إلى بغداد معاً. هذا الموقف يعكس إدراكاً بأن الانقسام الكوردي يمنح المركزية الاتحادية قوة إضافية. الوحدة ليست شعاراً قومياً، بل وسيلة سياسية لتعزيز التفاوض. قال إن قوة الكورد في بغداد ضمانة للعراق وللإقليم. هذه الجملة تختصر فلسفة سياسية كاملة. الكورد عندما يكونون أقوياء في بغداد، فإنهم يحمون مصالحهم، وفي الوقت نفسه يحمون التوازن داخل الدولة العراقية. فالعراق لا يستقر دون شراكة حقيقية بين مكوناته.

ثم وضع إصبعه على جوهر الإشكال. قال إن المشكلات بين بغداد وأربيل تعود إلى عدم تنفيذ الدستور. هذا تصريح واقعي ودقيق. الدستور كان يفترض أن يكون مرجعاً للعلاقة بين الطرفين. لكنه تحوّل إلى نص متروك، أو نص يتم تفسيره حسب الظرف السياسي. هذا الانحراف عن الدستور هو ما أنتج خللاً في العلاقة، وجعل المركزية الاتحادية تتوسع على حساب الفدرالية.

وما قاله بشأن أن النموذج العراقي الحالي لا يشبه أي نظام فدرالي في العالم ليس مبالغة. إنه تقييم مبني على الواقع الإداري. وجود مركزية شديدة داخل دولة يفترض أن تكون اتحادية يعني أن هناك خللاً بنيوياً يحتاج إلى معالجة، لا إلى إدارة مؤقتة. لذلك، فإن حديثه عن ضرورة تطبيق الدستور منذ عام 2005 إلى اليوم يكشف أنه يرى في هذا الدستور ضمانة، لا عبئاً. الدستور ليس مسألة نظرية، بل ضمانة للتعايش بين المكونات.

وفي نظره، إذا تعاملت بغداد بجدية مع مشكلات الإقليم، فإن العراق يستطيع الانتقال إلى مرحلة سياسية مختلفة وأكثر نجاحاً. وهذا تحليل يعكس فهمه لطبيعة الحكومات العراقية. المشكلة ليست في الخلافات نفسها، بل في التعامل معها. العراق، من وجهة نظره، يحتاج إلى مراجعة أخطائه، وإلى بناء علاقة مع الإقليم على أساس الشراكة، لا المركزية.

وعندما تحدث عن إعداد دستور لإقليم كوردستان كأولوية للحكومة الجديدة، كان يرسم مساراً مؤسساتياً. الدستور الداخلي ليس موجهاً ضد بغداد، بل موجهاً لترتيب البيت الكوردستاني. الدولة التي تريد موقعاً مستقراً تحتاج إلى مرجعية قانونية واضحة. غياب الدستور الداخلي يجعل العملية السياسية مرهونة بالاتفاقات المتغيرة، لا بالإطار الثابت.

ثم انتقل إلى ملف معقد آخر: مسار السلام في تركيا. قال إن حكومة الإقليم كانت دائماً مستعدة لدعم العملية. الواقعية هنا تقوم على فهم أن الصراع بين الدولة التركية وحزب العمال الكوردستاني له تأثير مباشر على كوردستان العراق. دعم مسار السلام ليس دعماً لطرف ضد آخر، بل دعماً لإيقاف نزيف ينعكس على المنطقة كلها. وأشار إلى أن العملية تحتاج إلى وقت، وأن جميع الأطراف يجب أن تدعمها. هذه قراءة دقيقة. عمليات السلام، خصوصاً في ملفات قومية، لا تُحسم بسرعة. تحتاج إلى تدرج، وثقة، وحسابات دقيقة.

إشارته إلى أن الإقليم يساعد تركيا وحزب العمال للوصول إلى تفاهم تكشف عن دور كوردستان كوسيط مقبول للطرفين. وهذا دور نادر في منطقة اعتادت على الاستقطاب، لا على الوساطة. وقال إن هناك جدية في أنقرة، وإن عبدالله أوجلان ما زال يشدد على المضي في العملية. هذه الرسائل ليست عابرة. إنها تعكس معرفة عميقة بالملف، ومتابعة دقيقة للحركة داخل تركيا.

ثم فتح ملف سوريا. قال إن الشعب السوري يستحق حياة أفضل. هذه ليست جملة عاطفية، بل تعبير عن فهم لطبيعة الأزمة. سوريا منهكة. وكل مسار حل فيها يتطلب تغييراً في طريقة الحكم. لذلك قال إن النموذج المركزي الصارم لا يناسب سوريا. بل يجب اعتماد نموذج جديد. هذا الموقف يتوافق مع بنية المجتمع السوري، ومع التجارب التي تثبت أن المركزية الشديدة في الدول المتعددة تنتج هشاشة، لا استقراراً.

وعندما تحدث عن قوات سوريا الديمقراطية، قال إنهم أدوا دوراً بطولياً في مواجهة الإرهاب. هذه الجملة ليست مجاملة سياسية. هي قراءة لدور قوات كانت جزءاً رئيسياً في هزيمة تنظيمات مسلحة تهدد كل المنطقة. لكنه في الوقت نفسه شدد أن الحل في سوريا يحتاج إلى تغيير سياسي، وليس مجرد انتصار عسكري.

حديثه عن دور تركيا في سوريا يعكس واقعية سياسية واضحة. قال إن تركيا تريد حلاً، لكنها لا تستطيع فرض حل وحدها. الحكومة السورية نفسها يجب أن تتجه نحو نتيجة تسمح بتطبيق نموذج حكم جديد. السياسي الواقعي يعرف أن الدول لا تغير أنظمتها تحت الضغط الخارجي فقط. التحول يجب أن يأتي من الداخل أيضاً.

في مجموع هذه الأفكار، يظهر نيجيرفان بارزاني كسياسي يدرك طبيعة الشرق الأوسط الجديدة. يفهم أن الصراعات الحالية ليست صراعات كلاسيكية. يعرف أن القوى الإقليمية والدولية تغيرت أدوارها. ويعرف أن المشهد العربي والكوردي والتركي والإيراني يعيش تحولاً واسعاً.

الواقعية التي طرحها ليست استسلاماً للواقع. بل محاولة لتشكيل واقع جديد عبر التهدئة، عبر الحوار، عبر الدستور، وعبر بناء جسور مع الدول والقوى المؤثرة. المثالية التي ظهرت في كلمته ليست مثالية حالمة، بل مثالية منضبطة، مبنية على حسابات.

هذه القراءة المتوازنة تجعله أحد الأصوات القليلة في المنطقة التي تتحدث بوعي، بعيداً عن الانفعال. وفي الوقت نفسه، تظهر خبرته الطويلة في إدارة الصراعات، وفي فهم طريقة تفكير بغداد، وأنقرة، وواشنطن، ودمشق.

الكلمة في مجملها تعكس وجود مشروع. مشروع يقوم على ثلاث ركائز: الاستقرار، الحوار، والدستور. مشروع يريد من الإقليم أن يبقى لاعباً مؤثراً، لا متلقياً. ويريد من بغداد أن تكون شريكاً، لا مركزاً. ويريد من المنطقة أن تعيد التفكير في أدواتها.

بهذه المقاربة، قدّم نيجيرفان بارزاني نموذج السياسي الذي يعيش بين مثاليتين: مثالية السلام، ومثالية الواقعية السياسية. وفي هذا التوازن، تظهر قوة الدور الذي يحاول الإقليم أن يلعبه في لحظة إقليمية حساسة.

تحليل

د زياد حمد الصميدعي

اكرم طالب الوشاح

قاسم محسن شفيق الخزعلي

طالب كاظم سعداوي

تحرير:

د.هوشيار مظفر علي امين