نيجيرفان بارزاني في ملتقى السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2025م رؤية الانبثاق بمليون رؤية وزيادة…

خاص لموقع hiwar/ د هوشيار مظفر علي امين: :::: "نعتقد أنّ المشكلات الموجودة في المنطقة تحتاج إلى تفكير سليم لإيجاد حل لها، لأنّ القتال لم يعد يجلب أي نتيجة سوى المزيد من الدمار، ويجب حلّ القضايا عبر الحوار." نيجيرفان بارزاني في الملتقى ::::

نوفمبر 19, 2025 - 18:27
نيجيرفان بارزاني في ملتقى السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2025م رؤية الانبثاق بمليون رؤية وزيادة…

كلمة السيد نيجيرفان بارزاني في ملتقى MEPS هذا العام لم تكن خطاباً بروتوكولياً. كانت وثيقة سياسية واستراتيجية مكثّفة. نبرة هادئة ومباشرة، لكنها محمّلة بالرسائل. وهي كلمة تلاقت بشكل واضح مع ما أكده الزعيم مسعود بارزاني ورئيس الحكومة مسرور بارزاني في المكان نفسه، ومع حضور كبار قادة العراق، حول مستقبل العلاقة بين أربيل وبغداد، ومكانة الكورد في المشهد العراقي والإقليمي.

في هذا الملتقى الذي حمل عنوان “الفوضى المسيّرة؛ شرق أوسط جديد”، بدا أنّ كوردستان تريد أن تقول شيئاً مختلفاً. شيئاً أبعد من حدود الإقليم. أقرب إلى رسم دور جديد في معادلة الشرق الأوسط.

نيجيرفان بارزاني أعاد تثبيت معادلة بسيطة: الإقليم خيار أمن واستقرار، وليس جزءاً من أي صراع. هذا المبدأ شكّل خطاً استراتيجياً ثابتاً في عقيدته السياسية. لكن هذه المرة، بدا وكأنه يعيد تقديمه للعالم بطريقة أوسع، وكأنه يريد تثبيت أن الدور الكوردي لم يعد محلياً فقط، بل أصبح ركناً من أركان ما يمكن أن يسمى “الاستقرار الإقليمي الممكن”.

اختار بارزاني أن يبدأ من الفكرة الجوهرية: الإقليم لم يكن يوماً طرفاً في صناعة الفوضى، بل لطالما سعى ليكون حاجزاً أمام تمددها. أكد أنّ الإقليم “بذل قصارى جهده حتى لا يكون جزءاً من المشاكل التي حدثت في المنطقة”. هذه الجملة تحمل خلفية واضحة. خلفية تقول إنّ سنوات الحرب مع داعش، سنوات الانقسامات الداخلية، والشد والجذب مع بغداد، لم تُفقد الإقليم بوصلته الأساسية.

في قراءة الخطاب، يظهر أنّ بارزاني كان يحدد إحداثيات ثلاث: دور الإقليم، دور بغداد، ودور العالم في صياغة شرق أوسط مختلف.

تأكيده أن “القتال لم يعد يجلب أي نتيجة سوى الدمار” ليس جملة أخلاقية فقط. هو وضع لقاعدة صلبة: الحرب لم تعد تملك جدوى سياسية، ولا مستقبل لها كأداة نفوذ. وهو بذلك يضع كوردستان في الجانب الذي يمتلك رؤية مدنية للحل، رؤية تحاول تقليل كلفة الصراع في المنطقة، وتراهن على الحوار من موقع قوة، لا من موقع ضعف.

يشيد بخطوة أولى في غزة عبر قرار مجلس الأمن، ويضع هذه الخطوة ضمن سياق “حلّ مشكلات الشرق الأوسط”. هذا الربط بين غزة وبقية ملفات المنطقة رسالة واضحة. رسالة تقول إنّ الصراعات مترابطة، وحلّ عقدة واحدة قد يفتح الباب لحلول أخرى. كوردستان هنا تتحدث كفاعل يفهم تعقيدات المنطقة، لا كمتلقٍ للأحداث.

في وسط هذه الرؤية الإقليمية، يظهر الدور الأميركي. بارزاني وصف الولايات المتحدة بأنها “قوة كبيرة” تستطيع أن تلعب دوراً “مهماً وجاداً جداً” في الشرق الأوسط. هذا الانسجام مع نهج الواقعية السياسية التي تتبعها القيادة الكوردستانية في التعامل مع القوى الكبرى، يعكس ثباتاً في خط العلاقات الدولية. ليست مجاملة. بل سياسة طويلة المدى. سياسة تعتمد على شراكات محسوبة، لا على رهانات عاطفية.

وعندما انتقل إلى الحديث عن علاقة أربيل وبغداد، بدا وكأنه يدخل إلى الجزء الأكثر حساسية في ملف العراق. قال بوضوح إنّ الإقليم يريد “حلّ المشكلات بطريقة سلمية وعبر الحوار”. هذا التأكيد يعكس اتساقاً مع رؤيته الأشمل للمنطقة. لكنه يضيف طبقة أخرى: الدعوة الواضحة لوحدة الصف الكوردي في بغداد. بارزاني قال إن القوى الكوردستانية يجب أن تذهب “معاً”، وأن تكون “موحدة”، وأن تعرف “ما الذي يصب في مصلحة إقليم كوردستان”.

هذا الموقف يتطابق مع ما قاله الزعيم مسعود بارزاني في نفس المكان قبل سنوات، وما قاله امس في الموضع نفسه، ومع ما أكده السيد  مسرور بارزاني مراراً. وحدة الموقف الكوردي ليست شعاراً عند القيادة الكوردستانية. إنها شرط قوة. شرط لحماية المكاسب. شرط لضمان مستقبل الإقليم.

نيجيرفان بارزاني قدم تفسيراً دقيقاً لمصدر الأزمة بين أربيل وبغداد. قال إن جذورها تعود إلى “عدم تنفيذ الدستور”. وأكد أن الحكومة الاتحادية تعتمد “مركزية شديدة” لا تشبه أي نموذج فدرالي في العالم. هذه ليست جملة سياسية فقط. إنها تشخيص. تشخيص يستند إلى سنوات من التجربة. تشخيص يقول إن الدستور ليس وثيقة للزينة، بل العقد الذي يضمن التعايش بين مكونات العراق.

وعندما تحدث عن أن “قوة الكورد في بغداد ضمانة للعراق ولإقليم كوردستان”، فهو كان يحدد قاعدة جديدة: قوة الإقليم ليست ضد بغداد، بل لصالحها. هذا التصور يعيد صياغة مفهوم الشراكة. شراكة مبنية على التوازن، لا على الغلبة.

إشارته إلى تنظيم دستور للإقليم كأولوية للحكومة الجديدة تعكس إدراكاً أن الإقليم يحتاج إطاراً قانونياً داخلياً يحدد علاقاته، ويمنح مؤسساته مرجعية مستقرة. دستور الإقليم ليس مشروعاً انفصالياً كما يتخوف البعض. بل هو توضيح للسلطات ضمن نظام اتحادي يفترض أن يحترم التنوع. هذه الخطوة تؤسس لإقليم منظم، قوي، واضح الصلاحيات، وقادر على التفاوض بندية.

عند حديثه عن تركيا ومسار السلام فيها، بدا واضحاً أن الإقليم يريد لعب دور مساعد. قال إن كوردستان “دائماً كانت مستعدة لتقديم الدعم”. هذا الموقف ليس جديداً. لكنه اليوم يعاد تقديمه كجزء من رؤية إقليمية أوسع. دعم السلام في تركيا ليس خدمة لطرف واحد، بل خدمة للاستقرار العام، لأن أي تصعيد هناك يترك أثره المباشر على كوردستان والمنطقة.

حديثه عن عبدالله أوجلان وإصراره على استمرار العملية، كان رسالة مضاعفة. رسالة لأنقرة ولكل من يراقب هذا الملف. الإقليم يريد دوراً إيجابياً. يريد فتح أبواب الحل، لا تركها مغلقة.

أما في الملف السوري، فكان حديثه صريحاً. قال إن الشعب السوري “يستحق حياة أفضل”. ودعا إلى نموذج حكم “غير مركزي”، لأن سوريا متعددة الهويات. هذه الفكرة لم تأتِ من فراغ. الإقليم عاش تجربة مشابهة. يعرف معنى التنوع. يعرف أن المركزية ليست وصفة للاستقرار. بل وصفة للتوتر.

دعمه لقوات سوريا الديمقراطية وللدور “البطولي” الذي أدّته، يضع الإقليم في موقع متوازن. فهو يدعم القوى التي قاتلت الإرهاب، لكنه في الوقت نفسه يدعو إلى حل سياسي شامل. حل ينهي المركزية، لا ينقلها بشكل جديد.

وفي ما يتعلق بتركيا ودورها في سوريا، أوضح أن أنقرة “ترغب بشدة” بحل الأزمة. لكنه وضع النقطة الأساسية: الحل يبدأ من موقف الحكومة السورية نفسها. الإقليم هنا يقدم قراءة سياسية لا تأتي من العاطفة، بل من فهم لتوازنات القوى في سوريا.

هذه الكلمات ، والحديث في الفعالية حين تُقرأ كاملة، تظهر أن نيجيرفان بارزاني لم يقدّم موقفاً لحظياً. بل قدّم خريطة ذهنية واضحة. خريطة تقوم على الحوار، على الشرعية الدستورية، على الشراكات الدولية، وعلى وحدة البيت الكوردي.  في جعل القضية الكوردية قضية حقوق وشراكة لا قضية نزاع أو صراع.

في هذا الملتقى الذي حضره كثير من قادة العراق، بدا أن الرسالة واضحة: كوردستان تريد علاقة متوازنة. تريد العراق مستقراً. تريد شرقاً أوسطاً جديداً لا تُفرض فيه الحلول بالقوة. تريد مساراً سياسياً لا عسكرياً. تريد دستوراً محترماً. تريد شراكة حقيقية وليست شكلية.

هذه الرؤية، التي أراد بارزاني إيصالها، ليست مجرد إعلان نوايا. بل رؤية انبثاق. رؤية تقول إن كوردستان تمتلك اليوم مليون رؤية وزيادة. رؤية تراقب الخراب في المنطقة، لكنها في الوقت نفسه تبحث عن بوصلة جديدة. تبحث عن دور جديد. تبحث عن شرق أوسط يمكن أن يولد من رحم الفوضى، لكنه لا يكررها.

كلمته في MEPS كانت محاولة لرسم هذا الدور. محاولة لتثبيت أن الإقليم ليس مجرد متلقٍ للأحداث. بل فاعل. وصاحب موقف. وصاحب مسار. وصاحب رؤية تحاول أن تفتح باباً في جدار الأزمات.

ولعل أهم ما يمكن الخروج به من تلك الكلمة هو أن كوردستان، كما يبدو اليوم من خطاب قياداتها الثلاث – مسعود، نيجيرفان، مسرور – تتحرك كفريق واحد. فريق يريد بناء مستقبل واضح. فريق يعرف ما يريد. فريق يتقدم بخطاب ثابت، متماسك، عقلاني، ويستند إلى تجربة طويلة من إدارة الأزمات.

كلمة نيجيرفان بارزاني في دهوك عام 2025 كانت إعادة إعلان عن هذه الرؤية. رؤية الانبثاق. رؤية كوردستان التي تريد أن تكون جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة. جزءاً من الاستقرار لا من الفوضى. جزءاً من الشرق الأوسط الجديد الذي لا يولد من السلاح، بل من الحوار.