السودان وصدى الحروب الأهلية عبر التاريخ
بقلم: د. سيروان عبد الكريم علي
مثّلت الحروب الأهلية الشكل الأكثر تدميراً للعنف المنظم عبر التاريخ، إذ تتحول فيها الأمم إلى ساحات يواجه فيها المواطنون بعضهم بعضاً، وتتفكك الروابط الأساسية للمجتمع. من روما القديمة إلى الحرب الإسبانية (1936–1939) والأمريكية (1861–1865)، ومن رواندا (1994) إلى تفكك يوغوسلافيا وسوريا، يتكرر المشهد ذاته: زوال الفاصل بين المقاتل والمدني وتحول الشعوب بأكملها إلى ضحايا.
في الشرق الأوسط والعالم العربي، تجسدت هذه المأساة في الحرب اللبنانية (1975–1990)، والعشرية السوداء في الجزائر (1991–2002)، والحرب الطائفية في العراق (2006–2008)، والحرب الأهلية الكوردية (1994–1998). واليوم تتكرر الكارثة في السودان منذ أبريل 2023، حيث تُدار حرب شرسة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وسط صمت دولي مخزٍ يضاعف المأساة.
تتجرد الحروب الأهلية من أي التزام بالقانون الإنساني الدولي. تتحول اتفاقيات جنيف إلى أوراق بلا معنى حين يُنظر إلى المواطنين على أنهم العدو. في هذه الحروب لا قانون سوى القوة، ولا رحمة سوى الانتقام، ولا نظام سوى الفوضى.
تجارب لبنان والجزائر والعراق تقدم نماذج مروعة: مذابح طائفية، قرى أُبيدت، وعمليات تطهير عرقي يومية. في السودان، تجاوز عدد القتلى 150 ألفاً، ونزح أكثر من 14 مليون شخص أي ثلث السكان، في واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية المعاصرة. ما يميز السودان ليس نمط العنف، بل شدّته واتساعه مع العجز الدولي في الاستجابة.
الأطفال هم الضحايا الأكثر هشاشة. يُقتلون أو يُجندون قسراً أو يُفصلون عن أسرهم، محرومين من التعليم والحماية. وثّقت الأمم المتحدة أكثر من 900 انتهاك جسيم ضد الأطفال السودانيين خلال النصف الثاني من عام 2024، بينها مئات القتلى والمشوّهين. كما حصدت المجاعة أرواح أكثر من نصف مليون طفل، فيما يعاني نحو 800 ألف من سوء تغذية حادّ يهدد حياتهم. تتكرر هذه المأساة في كل حرب أهلية: أطفال لبنان تحت القصف، وأطفال الجزائر في مذابح القرى، وأطفال العراق ضحايا المفخخات، وحتى في كوردستان عانى الأطفال النزوح والصدمة.
النساء بدورهن يتحملن عبئاً مضاعفاً؛ يفقدن المعيلين ويصبحن المسؤولات الوحيدات عن البقاء، بينما يُستخدمن كسلاح في الحرب. في السودان تواجه أكثر من 12 مليون امرأة وفتاة خطر العنف الجنسي، وقد وثقت منظمات الإغاثة مئات الحالات، بعضها لفتيات في عمر الطفولة. الاغتصاب الجماعي والعبودية الجنسية والزواج القسري تحولت إلى أدوات لترهيب المجتمعات. هذا النمط ليس جديداً؛ فقد تكرر في لبنان والجزائر والعراق وحتى كوردستان، حيث أصبحت النساء رمزاً لمعاناة تتوارثها الأجيال.
وتكشف الحروب الأهلية دوماً عن ثلاث ظواهر مصاحبة: النهب، والمقابر الجماعية، والنزوح.
في السودان نُهبت المستشفيات والمدارس والمنازل في تدمير متعمد للأسس الاقتصادية والثقافية، كما حدث في لبنان والعراق والجزائر. المقابر الجماعية أصبحت سمة مألوفة؛ ففي دارفور وحدها وُثقت مقابر تضم آلاف المدنيين من قبائل المساليت. والنزوح بلغ مستوى غير مسبوق: أكثر من 14 مليون سوداني أُجبروا على ترك ديارهم، فيما لجأ الملايين إلى دول الجوار، وهو تكرار مأساوي لما شهده لبنان والعراق من قبل.
يؤدي النزوح إلى تآكل النسيج الاجتماعي وانهيار البنى الاقتصادية والتعليمية، وتحول الملايين إلى معتمدين على مساعدات دولية غير كافية. هكذا يُمحى الاستقرار وتضيع الهوية الثقافية مع كل حرب جديدة.
لكن المأساة لا تقتصر على الداخل، بل تمتد إلى عجز العالم عن التحرك. فالمجتمع الدولي يقف متفرجاً على الكارثة السودانية رغم امتلاكه أدوات فعالة: حظر السلاح، العقوبات، الممرات الإنسانية، والمساءلة الدولية. ومع ذلك، عطّلت روسيا قرارات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، وقدّمت دول أخرى الدعم العسكري لأطراف النزاع. أما القوى الغربية فاكتفت بخطابات الشجب دون فعل ملموس.
تجسد الحروب الأهلية انهياراً للعقد الاجتماعي وانتصاراً للعنف على الحوار، إذ تتكرر أنماط ثابتة من الوحشية: إلغاء القواعد، استهداف الأطفال والنساء، النهب، المقابر الجماعية، والنزوح الواسع. وتغدو مأساة السودان اليوم صورة مكثفة لهذه الأنماط مع الصمت العالمي. فالحروب الأهلية ليست قدراً، بل نتيجة مباشرة لعجز الدول عن الحوار، ولتغذية القوى الخارجية للصراع أو تجاهلها له.
سيحكم التاريخ على هذا الجيل لا بخطاباته عن حقوق الإنسان، بل بموقفه من الفظائع الجارية. كل يوم من الصمت يضيف طبقة جديدة من العار، وكل ضحية جديدة تصبح مسؤولية جماعية. إن إدانة الحروب الأهلية يجب أن تكون مطلقة، والمطالبة بالسلام واجباً إنسانياً لا يقبل المساومة.