الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإقليم كوردستان: من لغة التشكيك ...إلى لغة الاستثمار والشراكة

بقلم: د. سيروان أنور مجيد
إن منطقة الشرق الأوسط معروفة بحساسيّـها؛ ذلك أنها تنبع من مجموعة معقدة من العوامل الجيوسياسية، التاريخية، الاقتصادية، والدينية، وهذا ما يجعله واحدة من أكثر مناطق العالم توتراً وتقلباً.
ولعلّ أبرز أسباب تعقيد المعادلات السياسية في الشرق الأوسط، هي تلك الجغرافية الاستراتيجية التي تمتلكها، فهي تقع عند تقاطع ثلاث قارات مفعمة بالسكان: آسيا وإفريقيا وأوربا، إلى جانب الممرّات المائية والنفط والغاز؛ فضلا عن الصراعات الإقليمية كالصراع العربي- الإسرائيلي والمواجهة السنية والشيعة التي تغلي أحيانا في المنطقة إلى جانب وجود بعض الحروب الأهلية في اليمن وسوريا وليبيا؛ هذا إلى جانب وجود الحركات الإرهابية والمليشيات وضعف مؤسسات الدولة؛ والهجرة القسرية؛ وفوق كل ذلك أن هذه المنطقة هي مهد الأنبياء. وحاضنة الديانات الرئيسة في العالم متمثلاً في الإسلام والمسيحية واليهوديّة إلى جانب ديانات ومعتقدات أخرى؛ علاوة على الصراع المؤجج بين حين وآخر بين العلمانية والإسلاميين والمحافظين والمتجددين واليساريّين.
ومن هنا، ومع خضمّ غليان الاستقطاب في ملفات الأمن والهوية في الشرق الأوسط، يظهر إقليم في هذه المنطقة له كلمته في التعايش السلمي وتقريب وجهات النظر بين أطراف متخاصمة تاريخيًا، بل وبين دول وقوى عظمى وإقليمية في المنطقة، ولكن كلمته كلمة تريد أن تتّسم بالرماديّة، لا كل شي يرى باللونين الأسود أو الأبيض فقط لا ثالث لهما؛ بل يرى لونا من بين هذين اللونين؛ ليدخل بإطاره في حل الأزمات والصراعات؛ بل ويقول للمنطقة إن إقليم كوردستان لم يكن يوما عامل نزاع وصراع بل هو عامل الخير والوئام والسلام، وعنوانها في المنطقة: "إن سياسة إقليم كوردستان الثابتة هي البقاء كعامل استقرار في المنطقة".
على سبيل المثال، تتسم علاقة إقليم كوردستان مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالتوازن والاحترام المتبادل. فهي ليست علاقة مبنية على الامتثال المطلق، كما أنها لا تتسم بالرفض القاطع، بل تقوم على الحوار والتفاهم المشترك. وقد ساهم هذا النهج المتزن الذي تتبعه رئاسة الإقليم في تعزيز مكانة الإقليم لدى الجانب الإيراني، حيث بات يُنظر إليه باعتباره شريكاً فاعلاً، يتجاوز في تأثيره أقاليم أخرى وربما حتى بعض الكيانات المستقلة.
وقد حظي رئيس الإقليم، السيد نيجيرفان بارزاني، بحضور لافت في المحافل الإيرانية الرسمية والدولية، بما في ذلك لقاءاته الرفيعة مع القيادة الإيرانية، حيث يُستقبل كصديق مقرّب لا كضيف عابر. وفي كلمته خلال زيارته الأخيرة لإيران، أشاد السيد بارزاني بالدور الذي لعبته الجمهورية الإسلامية في دعم الشعب الكوردي خلال محنته في ظل النظام البعثي، مؤكداً: "حتى عندما كنت في إيران، شعرت أنني في بلدي، ولم أحسّ بالغربة". إن هذا الخطاب القائم على المودة والامتنان يمهد الطريق لمزيد من التقارب، ويفتح آفاقاً جديدة لتعاون بنّاء يتجاوز الأطر البروتوكولية نحو شراكة قائمة على الثقة والصداقة.
وعليه، فإنّ طبيعة التعامل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانيةتتطلب لغة خاصة؛ ذلك أنها لاعب رئيسي في العراق والمنطقة؛ بل ولديها مصالح جيوسياسية وأمنية واضحة في المنطقة؛ لذا نهج حكومة الإقليم ينبغي أن يكون بدقة متناهية مع مراعاة موازنة المصالح مع تركيا وبغداد؛ وهذا ما يتطلب الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع المسؤولين الإيرانيين على مستويات مختلفة، من أجل تجنب التوترات والحفاظ على استقرار الإقليم، وكل ذلك من أجل الحفاظ علی التواصل السياسيّ المنتظم.
ومن الناحية الأمنية، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية لها تحفّظاتها على الحركات الكوردية المعارضة في شرق كوردستان؛ إلا أن رئاسة إقليم كوردستان حاولت تفادي التورّط في الصراعات داخل إيران، والجمهورية الإسلامية الإيرانية تتفهم من أنّها تستند إلى كوردستان مستقرة لتأمين حدودها الغربية. ومن هذا المنطلق، إقليم كوردستان هنا ليس إقليما؛ بل قوة إقليمية لها نفوذها في بغداد.
هذا، وحتى مع الشأن السوري أخذ الإقليم موقفاً معتدلاً لا يصطدم مع إيران، خصوصاً في دعم الحلول السياسية وعدم دعم أي تحركات كوردية منافية للمصالح الإيرانية. وفيما يخصّ الملفّ النووي والعقوبات فإن رئاسة الإقليم تتحرّك بحذر شديد حتى لا يقع الإقليم في موقف حساس مع الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي بسبب علاقته مع طهران.
ورغم تحدّيات وجود المعارضة الإيرانيّة؛ إلّا أنّ رئاسة الإقليم تحاول الحفاظ على حماية حقوق هؤلاء مع الحفاظ على علاقته بالدولة الجارة، وإن كوردستان لن يكون موقعا لتأجيج وتشحين المعارضين؛ ومن هنا ترضي الجانبين؛ لا سيّما المجتمع الدوّلي بأن كوردستان ملاذ آمن للجميع، وله الاستقلالية في القرارات السياسي.
والأهمّ ممّا سبق، عالم الاقتصاد: إذ إن الإقليم من خلال فتح باب الاستثمار، وتغير لغة الحذر والتشكيك مع الجمهورية الإسلامية إلى لغة التحاور والمصالح المشتركة والتجارة المشتركة؛ فإذا ما استمرّ على هذا المنوال سيكون كوردستان سوق عمل للاستثمارات الإيرانية وتجارتها، فحتى كتابة هذا المقال تعدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أهم شركاء للتبادل التجاري لكوردستان، خاصة في مجال الطاقة والمنتجات الصناعية والزراعية؛ فضلا عن الاستثمارات المتزايدة في الإقليم، خصوصًا في قطاع الكهرباء والغاز، مع تفاهمات وضمانات متبادلة.
وبقي أن نقول:
من خلال السياسة السلمية المتّبعة للإقليم و المساهمات السلمية وعامل الاستقرار في المنطقة -مترجماً ذلك على أرض الواقع، مع الحفاظ على هويّته- أضحى للإقليم ورئاسته دوراً محوريا وفصليا في المنطقة، بحيث أربيل اليوم مركز الحوارات والملاذ الامن في المنطقة؛ بل وتصبح سوق عمل المنطقة على نهج الدول الخليجية؛ وبهذا هي الآن لها دورها المحوري في المعادلات الاقتصادية في المنطقة، بحيث جعلت من المشكّك سابقا عن الإقليم إلى المشارك في الاستثمار والتجارة في أربيل.