الشفافية عنوان ثورة نيبال والثورات القادمة

سبتمبر 20, 2025 - 12:40
الشفافية عنوان ثورة نيبال والثورات القادمة

 بقلم: سيروان عبدالكريم علي

في قلب كاتماندو، أشعل شباب نيبال موجة من الاحتجاجات التي يتردد صداها بعيدًا عن حدود بلادهم. ما بدأ عام 2022 كمظاهرات من أجل حرية التعبير ومواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، تحوّل سريعًا إلى حركة تجسد قوة جيل زد؛ الجيل الذي وُلد في عصر الاتصال الرقمي، وتربى في ظل الأزمات، وأصبح مصممًا على مواجهة الفساد. هؤلاء الشباب يطالبون بالشفافية، وبفرص عمل حقيقية، وبحريات ديمقراطية طال انتظارها. ومثلهم مثل شباب الشرق الأوسط، وإفريقيا، وأمريكا الجنوبية، فإنهم لم يعودوا يقبلون الصمت أو القمع. إن لجوء السلطات النيبالية إلى العنف، وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، لم يُضعف عزيمة هؤلاء المحتجين، بل زادهم إصرارًا. فمعركتهم لم تعد قضية محلية فحسب، بل هي جزء من يقظة جيل عالمي يجمع بين التكنولوجيا والتعليم والغضب المكبوت ليفرض مطالبته بالكرامة والعدالة.

لقد شهد العالم هذا المشهد من قبل. عندما انتفض شباب العرب عام 2011 ضد الأنظمة الاستبدادية، كانت شرارة غضبهم مزيجًا من البطالة، والفساد الذي سرق مستقبلهم. واليوم في نيبال، نجد الصورة تتكرر: حظر وسائل التواصل الاجتماعي، آلاف الخريجين العاطلين، وغلاء معيشة يرهق الأسر، وحكومة عاجزة عن الإصلاح. قد تبدو نيبال بعيدة جغرافيًا عن الشرق الأوسط، لكن القواسم المشتركة لافتة: فساد النخب، تقييد الحريات، وعجز القيادة عن مواكبة متطلبات العصر. الفرق الوحيد أن جيل زد اليوم أكثر ترابطًا عالميًا من شباب 2011؛ فبفضل "تيك توك" و"إنستغرام" و"تويتر"، تنتشر الرسائل خلال ساعات عبر الحدود، مما يجعل من المستحيل تقريبًا السيطرة عليها. الدرس واضح: الأنظمة التي تفضل السرية على الشفافية إنما تزرع بذور الانفجار الشعبي الذي لن تقدر الجيوش ولا حظر التجوال على كبحه.

ما يجري في نيبال ليس حدثًا فريدًا، بل حلقة من سلسلة مقاومات شبابية تتكرر في أنحاء العالم. ففي أمريكا اللاتينية، قاد الطلاب في تشيلي احتجاجات ضخمة ضد عدم المساواة، فأجبروا الحكومة على إصلاحات جوهرية. وفي السودان والجزائر، تحدّى الشباب الحكم العسكري مطالبين بالعدالة. وفي إفريقيا، من حملة #EndSARS في نيجيريا إلى انتفاضات الطلاب في جنوب إفريقيا، كان الشباب دائمًا في مقدمة المواجهة مع الفساد والعنف. أما في آسيا، فقد هزّت احتجاجات الشباب هونغ كونغ وسريلانكا، مؤسِّسة لنموذج جديد من المقاومة المدنية. هذه الحركات، رغم اختلاف البيئات، تتقاطع في أهدافها: محاربة الفساد، إيجاد فرص عمل، والمطالبة بالشفافية. ومن هذا المنطلق، فإن ما يجري في نيبال ليس مجرد نضال محلي، بل جرس إنذار عالمي بأن زمن الشباب الصامت قد انتهى، وأن أي حكومة في العالم لا يمكنها تجاهل جيل يشكّل نصف السكان في كثير من الدول.

في صميم هذه الانتفاضات كلها تقف كلمة واحدة: الشفافية. لسنوات طويلة، حكمت أنظمة في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا بآليات قائمة على التعتيم، والصفقات السرية. لكن العقد القادم لا يترك مجالًا لهذا الأسلوب. فالتكنولوجيا باتت تفضح الفساد بسرعة مذهلة، سواء عبر تسريبات وثائق، أو مقاطع فيديو تُظهر عنف الشرطة، أو تحقيقات صحفية تنتشر لحظيًا عبر الإنترنت. بالنسبة لجيل زد، لم تعد الشفافية مطلبًا ترفيهيًا، بل شرطًا أساسيًا للاستقرار. وما تجربة نيبال إلا دليل حي؛ إذ أدى حظر الحكومة لوسائل التواصل إلى انفجار الغضب بدلًا من كتمانه. وفي الشرق الأوسط، فإن استمرار الأنظمة في مقاومة الشفافية يعني أنها تمهّد الطريق لموجة ثانية من الربيع العربي. الرسالة واضحة: خلال السنوات العشر القادمة، لن ينجو أي نظام سياسي من زوال محتوم إذا لم يفتح أبوابه للمساءلة والمشاركة الشبابية.

إن احتجاجات نيبال، التي تقودها شخصيات شابة جريئة، ليست حدثًا محليًا فحسب، بل مرآة لمطلب عالمي يتكرر في بغداد والخرطوم وبوغوتا وغيرها من العواصم. يبرهن هؤلاء الشباب أن التعليم، والاتصال الرقمي، والشجاعة قادرة على زعزعة أعتى أنظمة الفساد. كما ذكّرنا الربيع العربي بأن للاستبداد حدودًا، تؤكد حركة الشباب في نيبال أن الشفافية ستصبح المعيار الوحيد للحكم الرشيد خلال العقد القادم. لم يعد بوسع الحكومات أن تعتمد على الرقابة أو التخويف أو الوعود الفارغة. إنهم يواجهون جيلًا يعتبر المشاركة والعدالة والوضوح حقًا غير قابل للتفاوض.