معنى ان ترامب يصف نيجيرفان بارزاني، بأنه معزز سلام وصانعه في العراق واقليمه المجاور.

خاص لموقعhiwar وموقع مجلة ادارة الازمة/ د هوشيار مطفر علي امين:في مشهد سياسي متقلب، يندر فيه الثبات وتتعقد فيه الحسابات، جاءت رسالة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني امس لتشكل لحظة رمزية تتجاوز حدود المجاملة الدبلوماسية. فالخطاب الذي شكر فيه ترامب بارزاني على جهوده في تعزيز السلام والتعايش، وتعزيزهما لم يكن تعبيراً عابراً عن امتنان رسمي، بل كان إشارة إلى إدراك متزايد في دوائر القرار الأميركي لدور الزعيم الكردي في إدارة توازنات دقيقة داخل عراق ما بعد الصراعات، وفي بيئة إقليمية تتنازعها المحاور والولاءات المتضادة. حين يصف ترامب قائداً شرق أوسطيّاً بأنه “صانع سلام”، فإن العبارة تكتسب حمولة سياسية كثيفة، لأنها تصدر عن رئيس جعل من فلسفة القوة محور سياسته الخارجية، لا من لغة التهدئة والمصالحة.

أكتوبر 22, 2025 - 19:23
معنى ان ترامب يصف نيجيرفان بارزاني، بأنه معزز سلام وصانعه في العراق واقليمه المجاور.

(1)

خلف هذا الوصف، تبرز قراءة أميركية لطبيعة التحولات التي أنتجها نيجيرفان بارزاني في مقاربة العلاقات بين أربيل وبغداد، وبين الإقليم وجيرانه، وبين كردستان والعالم. فبارزاني، لم يتعامل مع الصراع السياسي بوصفه حالة مواجهة صفرية، بل كفضاء لإدارة المصالح وتوسيع الممكنات. ومن هنا جاءت قدرته على أن يكون وسيطاً عراقيا وكورديا  لا طرفاً، فاعلاً لا تابعاً، وحاضراً في كل مفصل من مفاصل التوازن الإقليمي دون أن يفقد موقعه العراقي  داخل العراق.

ترامب الذي خاض سياسته الخارجية تحت عنوان “أميركا أولاً” لم يكن ميالاً إلى توزيع عبارات الثناء مجاناً، خصوصاً تجاه قادة الشرق الأوسط الذين اعتاد أن يراهم من منظور المصلحة الاقتصادية أو الحاجة الأمنية. لكن العلاقة مع نيجيرفان بارزاني اتخذت منحى مغايراً منذ اللقاء الأول بينهما على هامش إحدى المناسبات الدولية في فرنسا، حيث لاحظ مستشارو ترامب تماسك رؤية بارزاني ووضوح منطقه في تحليل تعقيدات الإقليم. تلك اللحظة لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي، بل بداية لتكوين انطباع في البيت الأبيض عن زعيم كردي قادر على الجمع بين البراغماتية والاتزان، في منطقة يغلب عليها منطق الاصطفاف الأيديولوجي والعداء المزمن.

حين أعاد ترامب في رسالته الأخيرة التذكير بلقاءاته مع بارزاني في فرنسا ودافوس، فإنه كان يستحضر صورة رجل الدولة الذي أدرك أن السياسة في الشرق الأوسط لا تدار بالشعارات بل بالمصالح. فنيجيرفان بارزاني لم يقدم نفسه يوماً كقائد إقليمي يبحث عن اعتراف خارجي، بل كفاعل  عراقي عراقي وكوردي محلي يسعى إلى تحقيق استقرار داخلي يمكن البناء عليه إقليمياً. هذه الرؤية هي التي جعلت منه شريكاً مقبولاً لدى القوى الدولية المختلفة، من واشنطن إلى موسكو، ومن بروكسل إلى أنقرة وطهران، وإن اختلفت مصالح كل منها.

وتفاوضاته  مع السيد محمد شياع السوداني رئيس وزراء العراقي بعض شواهد ذلك.

(2)

في السياق العراقي، برزت براعة نيجيرفان بارزاني في إدارة الأزمات المتداخلة بين الإقليم وبغداد. لم يسع إلى تأزيم الخلافات حول النفط أو الميزانية أو المناطق المتنازع عليها، والرواتب، بل تبنى منهجاً تفاوضياً يقوم على الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة، مهما بلغت حدة الخطاب السياسي. هذه المقاربة جعلته يُنظر إليه داخل العراق بوصفه زعيماً عراقيا لا كورديا فحسب وعقلانياً يدرك حدود القوة وحدود التنازل. في مرحلة كان فيها الانقسام الداخلي العراقي يهدد بانهيار المنظومة السياسية، تحرك بارزاني بمرونة محسوبة بين القوى الشيعية والسنية والكردية، محاولاً تثبيت منطق الشراكة لا الهيمنة، ومؤكداً أن استقرار الإقليم لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن استقرار بغداد.

دبلوماسيته لم تتوقف عند حدود الداخل. في علاقته مع تركيا، أدار بارزاني معادلة دقيقة بين الاعتماد الاقتصادي والاعتبار القومي. فقد نجح في الحفاظ على شراكة استراتيجية مع أنقرة دون أن يخسر مكانته داخل البيت الكردي، وهو توازن نادر في سياق التوترات المستمرة بين الدولة التركية والقوى الكردية الإقليمية. هذه القدرة على الفصل بين المصالح الاقتصادية والمواقف الأيديولوجية جعلت أربيل مركز ثقل في حسابات الطاقة الإقليمية، وجعلت من بارزاني لاعباً لا يمكن تجاوزه في أي حديث عن خطوط النفط والغاز التي تربط العراق ببحر المتوسط.

أما في العلاقة مع إيران، فقد تبنى بارزاني سياسة تقوم على تجنب التصعيد والانفتاح عبر القنوات الهادئة. فهو يدرك أن الجغرافيا لا تمنح إقليم كردستان ترف القطيعة مع طهران، لكنها تسمح له بأن يكون جسراً للتوازن لا منصة للصراع. لذلك حافظ على خطاب سياسي خالٍ من الاستفزاز، وفتح قنوات تفاهم مع مختلف مراكز القرار الإيراني، من دون أن يسمح بتحويل الإقليم إلى ساحة صراع. هذه المرونة أكسبته احتراماً في طهران، في علاقة  تقوم على إدراك متبادل لضرورة إدارة التداخل لا تفجيره.

في هذا الإطار، يمكن فهم وصف ترامب لنيجيرفان بارزاني بأنه صانع سلام ومعززه، فالمعنى هنا يتجاوز مفهوم التسوية السياسية إلى بناء بيئة من التهدئة المستدامة. لم يكن السلام الذي تحدث عنه ترامب هو النتيجة النهائية لاتفاقات محددة، بل هو المسار الذي اختاره بارزاني في إدارة كل أزمة واجهته. سواء تعلق الأمر بعلاقة الإقليم مع الحكومة الاتحادية، أو بموقع كردستان في الصراع الإقليمي الأوسع، فإن منهجه ظل واحداً: تجنب المواجهة غير المحسوبة، وتوسيع مساحة التفاهم، وبناء الثقة عبر الفعل لا عبر الخطاب.

اللقاء  السابق في منتدى دافوس كان لحظة أخرى من التقدير المتبادل. ففي جلسات النقاش المغلقة، تحدث بارزاني عن ضرورة أن تنظر القوى الكبرى إلى الشرق الأوسط من زاوية الاستقرار لا من زاوية الردع. كان يرى أن استمرار النزاعات الصغيرة يغذي الصراعات الكبرى، وأن غياب التنمية هو الوقود الدائم للتطرف. هذا الطرح وجد صدى في بعض دوائر صنع القرار الأميركية، التي كانت تبحث عن شركاء محليين قادرين على صياغة خطاب واقعي. ترامب الذي كان يميل إلى الحلول السريعة أدرك أن هذا الزعيم الكردي يتحدث بلغة الحسابات الطويلة المدى، لا بلغة العناوين الإعلامية.

ومثله لقاءهما في باريس في افتتاح نوتردام...

(3)

في ضوء ذلك، لم يكن غريباً أن تأتي رسالة ترامب في توقيت إقليمي دقيق، تزامناً مع تصاعد التوترات في المنطقة. فقد أراد أن يرسل إشارة مزدوجة: دعم أميركي لشخصية عراقية كوردية معتدلة داخل العراق، وتثمين لدور أربيل كقناة تواصل غير صدامية بين العواصم المتخاصمة. لقد فهمت واشنطن منذ سنوات أن كردستان لم تعد مجرد إقليم محلي، بل ساحة تأثير قادرة على جمع المتناقضات. وبارزاني كان هو من صاغ هذا الدور بصبر وحنكة، من خلال شبكة علاقات معقدة لكنها مستقرة مع كل اللاعبين الأساسيين.

في مقاربة السياسة الواقعية، لا يُصنع السلام بالنيات بل بإدارة التناقضات. ونيجيرفان بارزاني أثبت أنه يتقن هذا الفن. فهو لم يسع إلى فرض رؤيته بالقوة، بل بنى ثقته عبر تراكم من المواقف المتزنة. في أزمات الرواتب، والموازنة، والعلاقة مع التحالف الدولي، غاختار الحوار  والتفاوض على التصعيد، والتفاهم على الانعزال. هذه السياسة لم تكن خالية من النقد داخل البيت الكردي نفسه، إذ رأى فيها البعض ميلاً مفرطاً إلى التسويات، لكن نتائجها أثبتت قدرتها على حماية الإقليم من الانجرار إلى صدامات مدمرة.

ترامب، الذي كانت إدارته تميل إلى عقلية الصفقة، وجد في  نيجيرفان بارزاني نموذجاً للقيادة التي تفكر بمنطق المصالح لا بالشعارات. لذلك لم يكن شكره مجرد مجاملة، بل تعبيراً عن تقدير لدور يراه الأميركيون أساسياً في منع تدهور الأوضاع في العراق والمنطقة. فالإقليم الكردي بالنسبة للولايات المتحدة هو نقطة ارتكاز أمنية واقتصادية في قلب المثلث الجيوسياسي بين إيران وتركيا وسوريا، ووجود قيادة متوازنة في بغداد وأربيل يمنح واشنطن هامش مناورة أوسع في إدارة ملفات الشرق الأوسط.

من زاوية تحليلية، يمكن القول إن بارزاني أعاد تعريف مفهوم الزعامة الكردية في الإطار الإقليمي. فهو لم يكتف بالدفاع عن حقوق الإقليم، والعراق، بل عمل على ترسيخ صورته كصانع توازن بين القوى المتعارضة. هذا الدور لم يأتِ من فراغ، بل من خبرة تراكمت عبر عقود من الانخراط في مفاوضات معقدة، سواء مع بغداد أو مع العواصم المجاورة. وفي كل مرة كان يختار لغة المصالح المشتركة بديلاً عن لغة الصراع الوجودي. بهذا الأسلوب بنى لنفسه مكانة مميزة داخل الدبلوماسية الإقليمية، جعلت من أربيل منصة حوار لا جبهة مواجهة.

إن وصف ترامب له بأنه “صانع سلام ومعزز سلام ” يمكن قراءته أيضاً بوصفه إقراراً أميركياً بفاعلية النهج الكوردي  في إدارة العلاقات مع القوى الكبرى. فالإقليم، رغم محدودية موارده، استطاع أن يرسخ شبكة شراكات متوازنة، وأن يحافظ على درجة من الاستقلالية في قراراته. هذه المرونة جعلت منه مثالاً لما يمكن تسميته “الواقعية العراقية الهادئة”، وفق استراتيجيات نيجيرفان بارزاني ، حيث يتم الجمع بين الحفاظ على الهوية السياسية والانفتاح على العالم. هذه الواقعية هي ما تسعى واشنطن إلى تشجيعه في منطقة تتنازعها المغامرات الأيديولوجية والتقلبات العسكرية.

في خضم التنافس  الخاص والعام لاطراف متعددة على النفوذ في العراق، برز نيجيرفان بارزاني كأحد العراقيين القلائل القادرين على التحرك في المساحة الرمادية بين الاطراف . لم يكن وسيطاً بالمعنى التقليدي، لكنه نجح في إبقاء الإقليم بعيداً عن الاستقطاب. وفي الوقت نفسه، لم يسمح بتحويل بغداد وكردستان إلى منصة تستهدف أي طرف. هذه السياسة المتوازنة وفرت للإقليم قدراً من الحصانة أمام موجات الاضطراب التي عصفت بالعراق منذ 2003، وجعلت منه أحد النماذج القليلة للاستقرار النسبي في محيط مضطرب.

التحولات التي قادها بارزاني لم تكن في الخطاب فقط، بل في بناء مؤسسات قادرة على التعامل مع الأزمات المتكررة. فقد أدرك مبكراً أن الدبلوماسية الفاعلة تحتاج إلى أدوات تنفيذية، وأن الثقة الدولية لا تُبنى إلا على كفاءة مؤسساتية. لذلك عمل على تحديث البنية الإدارية في الإقليم، وعلى تطوير أدوات التواصل مع المجتمع الدولي. هذه الجهود عززت موقع أربيل في شبكة العلاقات الإقليمية، وسمحت لها بالتحرك بوصفها شريكاً فاعلاً في ملفات الطاقة والاستثمار والأمن.

ترامب الذي يتعامل مع السياسة بمنطق الربح والخسارة وجد في هذا النموذج ما ينسجم مع رؤيته. فهو يرى أن القادة الذين يحققون الاستقرار الداخلي يساهمون في تقليل الأعباء الأميركية في الخارج. ومن هنا جاء تقديره لنيجيرفان بارزاني الذي استطاع أن يجعل من إقليم كردستان شريكاً موثوقاً لا عبئاً إضافياً على واشنطن. في هذا المعنى، يصبح وصفه بـ“صانع السلام ومعززه" اعترافاً بقدرة القيادة الكردية على تحويل التوازنات الداخلية إلى عنصر استقرار إقليمي.

لكن الدلالة الأعمق تكمن في أن هذا الوصف يعيد تسليط الضوء على نموذج القيادة في الشرق الأوسط. فبارزاني يمثل جيلاً جديداً من القادة الذين يفكرون بمنطق الدولة لا الثورة، وبالاستقرار لا المغامرة. وقد أظهر أن بإمكان الزعامة الكردية أن تكون جسراً لا جداراً، وأن الدور الإقليمي لا يُكتسب بالقوة بل بالثقة. هذا التحول في المفهوم القيادي هو ما جعل من بارزاني شريكاً محاوراً مقبولاً لدى القوى الكبرى، ومصدراً لإلهام داخلي في الإقليم ذاته.

إن قراءة موقف ترامب لا يمكن فصلها عن التحولات التي شهدها الإقليم خلال العقد الأخير. فوسط انهيارات الأنظمة وصعود الجماعات المسلحة، برزت كردستان بوصفها منطقة استقرار نسبي. هذا الاستقرار لم يكن صدفة، بل نتاج سياسة واعية قادها نيجيرفان بارزاني لتجنيب الإقليم الانزلاق إلى الصراعات المحيطة. فقد تعامل مع الحرب على تنظيم داعش بواقعية ميدانية، ومع ما بعدها بمرونة سياسية، مركزاً على إعادة الإعمار وبناء العلاقات الاقتصادية. هذه الأولويات جعلت من كردستان نموذجاً محلياً لتوازن المصالح، وهو ما أثار إعجاب العواصم الغربية التي تبحث عن شركاء قادرين على الإدارة لا التصعيد.

حين كتب ترامب في رسالته أن “العالم قادر على تجاوز الخلافات القديمة والمضي نحو مستقبل مشترك يسوده السلام”، كان يلمح إلى التجربة الكردية العراقية  كحالة واقعية لإمكانية التعايش رغم التناقضات. في هذا الخطاب يمكن أن نقرأ نوعاً من الإقرار الأميركي بأن سياسات التسوية المحلية أكثر نجاعة من التدخلات العسكرية. وتجربة نيجيرفان بارزاني تقدم دليلاً عملياً على ذلك، إذ أثبت أن إدارة الأزمات يمكن أن تكون أداة لبناء السلام لا لتأجيله.

ومن ثم، يمكن القول إن وصف ترامب لنيجيرفان بارزاني بأنه صانع سلام عراقي كوردي  لم يكن نتاج لحظة دبلوماسية عابرة، بل خلاصة لتراكم من الأداء السياسي الذي جمع بين الواقعية والرؤية. لقد استطاع بارزاني أن يحول الإقليم من طرف في النزاعات إلى وسيط في التسويات، وأن يرسخ مكانته كزعيم يعتمد الحوار أداة والسياسة وسيلة. في منطقة تتكاثر فيها الأصوات المتطرفة، يشكل هذا النهج قيمة استراتيجية بحد ذاته، ويجعل من القيادة الكردية نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه السياسة في الشرق الأوسط إذا تحررت من الانفعال واتجهت نحو البناء.

هكذا، فإن العبارة التي وردت في رسالة ترامب تختصر مساراً كاملاً من التحول في دور كردستان والعراق في معادلات المنطقة. نيجيرفان بارزاني لم يصنع السلام بمعناه الاحتفالي، بل صنعه كخيار دائم في إدارة التوازنات العراقية والكوردية والاقليمية. وهذه هي السياسة التي تبقى بعد أن تهدأ الخطابات، لأنها تصنع المستقبل بهدوء من داخل العواصف.

وذلك ما سار عليه نيجيرفان بارزاني فاستحق هذه الشهادة والرسالة من ترامب.

::::

::::