بين السيد محمد شياع السوداني والسيد نيجيرفان بارزاني ادارة الازمة وقيادة الصراع لأجل العراق.

خاص لموقعhiwar/د هوشيار مطفر علي امين: كان العام الأخير نقطة تحوّل في مشهد العراق السياسي، المتجه لانتخابات الشهر القادم، لأن إدارة الأزمات لم تعد مجرد ردود أفعال، بل أصبحت علماً يُمارَس بعقل الدولة لا بعصبية المواقف. في هذه اللحظة الدقيقة برز نيجيرفان بارزاني ومحمد شياع السوداني بوصفهما نموذجين للقيادة التي تُدير الصراع لا تُستهلك فيه. كلاهما أدرك أن التحدي الحقيقي للعراق لا يأتي من الخارج فحسب، بل من عجز الداخل عن توحيد رؤيته، فاشتغلا على تحويل الخلاف إلى إدارة، والإدارة إلى مشروع وطني.

أكتوبر 25, 2025 - 05:32
بين السيد محمد شياع السوداني والسيد نيجيرفان بارزاني ادارة الازمة وقيادة الصراع لأجل العراق.

(1).

ما فعلاه لم يكن مصالحة ظرفية بين بغداد وأربيل، بل تأسيساً لثقافة جديدة في العمل السياسي. كانا يعرفان أن العراق لا يُحكم بالقرارات الأحادية، ولا يستقر بالشعارات، بل بالثقة المتبادلة. لذلك أعادا تعريف مفهوم الشراكة بين المركز والإقليم، وجعلا من التنسيق أداة للبقاء لا عبئاً على القرار. في زمن كانت فيه المنطقة تُدار بالاصطفافات، أصرّ الاثنان على أن العراق لا ينتمي إلى محور بل إلى مصلحته الوطنية أولاً.

هذه الرؤية المشتركة انعكست في كل مسار تفاوضي خاضاه مع القوى الإقليمية والدولية. حين جلس السوداني مع القادة الإيرانيين أو الأتراك أو العرب، كان يحمل رؤية عراقية موحدة، تُعبّر عن بلد يريد علاقات توازن لا تبعية. وحين التقى نيجيرفان بارزاني مع العواصم نفسها، كان يُكمّل الخط ذاته بلغة التفاهم الاقتصادي والدبلوماسي. بهذا التناغم النادر، تحوّل العراق من ساحة نفوذ إلى لاعب يحسب له الجميع حساباً. لم يعد يُنظر إليه كدولة محكومة بأزماتها، بل كدولة تحاول أن تُسهم في استقرار المنطقة.

::::

::::

(2)

لقد أثبتت التجربة أن الحوار بين السوداني وبارزاني لم يكن حدثاً داخلياً فقط، بل له تأثير استراتيجي على جوار العراق. فاستقرار العلاقة بين بغداد وأربيل يعني تلقائياً استقرار الحدود مع تركيا وإيران وسوريا، ويمنح الدول العربية ثقة أكبر بأن العراق عاد يمتلك قراره. هذه النتيجة لم تأتِ بالصدفة، بل من إدراك عميق لدى الرجلين بأن سياسة التفاهم الداخلي هي الشرط الأول لأي حضور خارجي محترم.

في السياسة الإقليمية، كان العراق طويلاً يُرى من خلال عدسة الآخرين، تارة كامتداد لمحور، وتارة كمنطقة نفوذ. اليوم تغيّر المشهد. نيجيرفان بارزاني والسوداني أعادا رسم الصورة. صارا يتحدثان عن العراق بوصفه نقطة التقاء بين الجميع، لا جبهة لأي طرف. حين زار السوداني الرياض وطهران وعمّان، وشرم الشيخ، وحين زار بارزاني أنقرة وأبوظبي وباريس، كان الخطاب واحداً: العراق يريد سلاماً دائماً في جواره، لأن سلام الجوار هو الضمانة الأولى لاستقرار الداخل.

هذه الفكرة تحوّلت من شعار دبلوماسي إلى منهج عمل. فالعراق اليوم يقف في المنتصف بين القوى المتصارعة في المنطقة، لا ليوازن بينها فقط، بل ليقدّم نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين الدول حين تتقدم المصالح على النزاعات. في هذا الإطار، أصبحت أربيل وبغداد معاً منصتين للحوار بين الخصوم، من واشنطن إلى طهران، ومن أنقرة إلى دمشق.

التحليل السياسي يُظهر أن إدارة الصراع في العراق تمرّ بمرحلتين متداخلتين: الأولى داخلية، تتعلق بترتيب البيت العراقي، والثانية إقليمية، تتعلق بكيفية تموضع العراق بين محاوره المتنافسة. في المرحلة الأولى، أثبت السوداني وبارزاني أن العمل الهادئ أجدى من المواقف الصاخبة. فقد عالجا الملفات المعقدة عبر التدرج، من الموازنة إلى قانون النفط والغاز، ومن توزيع الإيرادات إلى التنسيق الأمني. هذا النهج حمى الدولة من التصدع، وسمح للمؤسسات بأن تعمل بتوازن. وفي المرحلة الثانية، تبنيا سياسة خارجية متوازنة جعلت العراق طرفاً مقبولاً لدى الجميع.

::::

::::

(3)

يُدرك الاثنان السيد السوداني والسيد نيجيرفان بعراقتهما العراقية،  أن الجغرافيا لا ترحم الدول التي تعيش على التخندقات. لذلك اختارا الواقعية منهجاً. فلا مصلحة في العداء مع تركيا التي تمثل منفذ العراق إلى البحر، ولا فائدة من التصادم مع إيران التي تشترك معه بحدود وثقافة واقتصاد، ولا معنى لعزلة عن العرب الذين يشكّلون عمقه التاريخي. هذه المقاربة ليست حياداً سلبياً، بل استراتيجية بقاء قائمة على الانفتاح والاحترام المتبادل.

إن التقاء الرؤيتين، رؤية نيجيرفان ورؤية السوداني، أنتج خطاباً عراقياً عراقيا، جديداً أمام المجتمع الدولي. فبدلاً من أن يكون الحديث عن العراق مشحوناً بالخوف من الانقسامات، أصبح يدور حول فرص الاستثمار والطاقة وإعادة الإعمار. هذا التحول يعكس نضوج القيادة العراقية التي بدأت تفكر بمفاهيم التنمية والاستدامة، لا بمفاهيم الطوارئ والأزمات.

حين تتابع الدوائر الدبلوماسية في واشنطن أو بروكسل أو أنقرة ما يجري في بغداد وأربيل، فإنها ترى لأول مرة في سنوات طويلة انسجاماً في الخطاب السياسي. هذا الانسجام يُقرأ على أنه عودة للعقل العراقي الجمعي. ترامب حين كتب  امس، رسالته إلى نيجيرفان بارزاني  بجعله ركن سلام وحين صافح في شرم الشيخ السوداني مصافحته المميزة ،كان في الواقع يُخاطب العراق كله، يوجّه تحية لرجال اختاروا أن يجعلوا من دولتهم مركز استقرار في زمن الفوضى.

لم يعد ممكناً إنكار أن العراق، بقياداته الحالية، أعاد صياغة موقعه في الشرق الأوسط. فبعد أن كان جزءاً من المشهد المأزوم، أصبح جزءاً من الحل. السوداني، ببرنامجه الواقعي في الحكم، وبارزاني، بدبلوماسيته الهادئة، قدّما معاً صيغة نادرة من التكامل السياسي. كلاهما يتحرك ضمن حدود الدولة لكنه يفكر بأفق الأمة. هذه الثنائية جعلت من التجربة العراقية مثالاً يمكن أن يُحتذى في إدارة التنوع ضمن وحدة المصير.

لقد شهدت المنطقة في السنوات الماضية انهيارات بسبب غياب القادة القادرين على الجمع بين الأمن والسياسة، بين الداخل والخارج، بين المبدأ والمصلحة. في العراق، يتكوّن الآن نقيض لتلك الصورة. رجال الدولة فيه يعملون على بناء نموذج عقلاني يُبقي باب الحوار مفتوحاً، حتى مع المختلفين. وهذه القدرة على الاستيعاب هي ما جعلت نيجيرفان والسوداني يحظيان بثقة معظم القوى السياسية العراقية رغم اختلاف توجهاتها.

::::

::::

(4)

سلام جوار العراق لم يعد مجرد رغبة، بل سياسة. فكل خطوة في الداخل تُبنى على مبدأ أن استقرار الجوار هو استقرار للبيت العراقي نفسه. في العلاقات مع تركيا، يجري العمل على ربط المصالح الاقتصادية بمشاريع استراتيجية كخط التنمية والنفط والغاز، ما يحوّل التداخل الجغرافي إلى فرصة. وفي العلاقة مع إيران، يسير التنسيق على أساس الاحترام المتبادل وضبط الحدود ومنع التدخلات. أما مع العالم العربي، فقد عاد العراق لاعباً محورياً يشارك في القمم والاتفاقات ويقود مبادرات التقارب. كل هذا جرى تحت رؤية واحدة مفادها أن العراق المتوازن هو ضمانة للمنطقة كلها.

السياسة ليست مجرد خطب، بل موازين تُختبر في الأزمات. وقد واجه العراق في العامين الأخيرين سلسلة من التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية. ومع ذلك، خرج منها أكثر تماسكاً. السبب أن إدارة الأزمة تحولت إلى نظام تفكير مؤسساتي. السوداني أدار الحكومة بعقل تكنوقراطي واقعي، ونيجيرفان تعامل مع الملفات الحساسة بمرونة دبلوماسية. هذا التناغم بين الصرامة التنفيذية والليونة السياسية هو ما مكّن الدولة من تجاوز العواصف.

في الخطاب الدولي، يُنظر إلى العراق الآن كحالة اختبار لنجاح الدولة المركّبة في الشرق الأوسط. فمنذ عقود، شكك كثيرون في قدرة العراق على تجاوز تاريخه من الانقسامات، لكن التجربة الحالية تثبت أن الدولة العراقية يمكن أن تُدار بالتوازن لا بالغلبة. نيجيرفان والسوداني  بعراقتهما العراقية جسّدا هذا الدرس، كلٌّ من موقعه. الأول يرمم الجسور من الشمال، والثاني يثبّت ركائزها من بغداد، وكلاهما يلتقيان عند نقطة واحدة: الحفاظ على وحدة القرار الوطني.

إن ما يحدث اليوم هو استعادة ركيزية و ثابتة للعراق بوصفه دولة مبادرة، لا دولة متلقية. حين تتحدث واشنطن أو باريس أو أنقرة عن العراق، فإنها تتحدث عن شريك يمكن الوثوق به، لا عن ملف أزمة. هذا التحول هو جوهر الفخر العراقي. فبلد عانى ما عاناه، استطاع أن ينهض برؤى واقعية لا شعارات، وأن يقدّم للعالم نموذجاً في إدارة التعدد لا في تكريسه.

في التحليل الاستراتيجي، من يملك القدرة على إدارة صراعه الداخلي يمتلك مفاتيح التأثير الإقليمي. وهذا ما فعله العراق. فإدارة العلاقة بين بغداد وأربيل لم تكن شأناً داخلياً فقط، بل كانت رسالة إلى الجوار بأن العراق قرر أن يخرج من أسر التجاذب. السلام الذي يتحدث عنه ترامب ليس سلاماً في الأوراق، بل سلام في السلوك. سلام يُبنى يومياً عبر سياسة مسؤولة، ويُدار بعقول تعرف أن مستقبل العراق مرهون بسلام المنطقة، وأن سلام المنطقة لا يتحقق دون عراق متوازن.

هذه الحقيقة أصبحت قناعة راسخة في الخطاب العراقي الجديد. فالقادة اليوم يتحدثون بلغة واحدة عن احترام السيادة المتبادلة، عن التعاون في الطاقة والمياه والأمن، وعن ضرورة أن يكون العراق منصة لتلاقي المصالح لا لتصادمها. في هذا الإطار، يمكن القول إن السوداني ونيجيرفان قدما معاً خريطة طريق لدبلوماسية عراقية حديثة، قوامها الثقة بالذات والانفتاح على الآخر.

الفخر هنا ليس بشخصين فقط، بل بنهج بدأ يترسخ في الدولة. فالإدارة الرشيدة للأزمات، والقدرة على تحويل الصراع إلى فرصة، هي ما يصنع هيبة الدول. العراق اليوم يستعيد هذه الهيبة من خلال قياداته التي تضع المصلحة العليا فوق الحسابات الضيقة. وحين يثني ترامب على رجال العراق، فإنه يكرّس صورة هذا التحول أمام العالم.

إن ما تحقق حتى الآن لا يُعد نهاية الطريق، بل بدايته. لكن ما يميز هذه المرحلة هو أن العراق يسير بخطى ثابتة على أرض صلبة، وأن رجاله يفكرون بلغة المستقبل لا الماضي. نيجيرفان بارزاني ومحمد شياع السوداني أثبتا أن السياسة يمكن أن تكون عملاً وطنياً لا مجالاً للمساومات، وأن بناء الثقة أصعب من كسب المعارك لكنه أكثر دواماً. بهذه الروح، يمضي العراق نحو استقرار دائم، ينعكس على جواره ويمنحه معنى جديداً للسلام في الشرق الأوسط.

وهكذا، حين ينظر العالم اليوم إلى العراق، فإنه لا يرى دولة تبحث عن وساطة، بل دولة أصبحت هي الوسيط. هذه المكانة لم تُمنح، بل صُنعت بالعمل والتخطيط والصدق في النية. إن ما يجمع السوداني ونيجيرفان ليس فقط موقعهما في الحكم، بل إيمانهما المشترك بأن السلام مشروع وطني لا خياراً مؤقتاً. لذلك يمكن القول إن وصف ترامب لم يكن مجاملة لشخص، بل شهادة على عودة العراق إلى ذاته، دولة تملك القدرة على القيادة وتستحق احترام العالم.

بهذا المعنى، يصبح الفخر العراقي مبرراً ومشروعاً. لأن رجال الدولة فيه لم يعودوا يُدارون بالأزمات، بل يُديرونها. لم يعودوا يخشون الصراع، بل يحولونه إلى توازن. ولم يعودوا يكتفون بالشكوى من الجوار، بل يعملون على إصلاحه. هذه هي القيادة التي تُصنع منها الأمم. قيادة ترى في السلام قوة، وفي الحوار سلاحاً، وفي الوطن مشروعاً لا يُختزل في سلطة. هذا هو العراق الذي يستعيد مكانته، بواقعية السوداني  وهدوء نيجيرفان، وبإيمانه العميق بأن من يدير أزماته بعقل، يقود تاريخه بثقة ومن يخمد صراعاته يزرعه كما فعل هذان الرجلان.

::::

::::