الرحلة الأبدية: تحوّلات الهجرة من الفتح الروحي إلى اللجوء الإنساني

أكتوبر 22, 2025 - 12:58
الرحلة الأبدية: تحوّلات الهجرة من الفتح الروحي إلى اللجوء الإنساني

بقلم: سيروان عبدالكريم علي

تُعَدّ الهجرة من أقدم التجارب الإنسانية التي سجّلتها الكتب السماوية والتاريخ البشري على السواء، فهي ليست مجرّد انتقالٍ من مكان إلى آخر، بل فعلُ مقاومةٍ للألم، وبحثٌ عن الحرية والكرامة. منذ قصص الأنبياء في القرآن الكريم إلى رحلات المنفى في الكتاب المقدس، كانت الهجرة دائمًا استجابةً إيمانيةً ضد القهر السياسي والديني. وفي العصر الحديث، تتكرّر هذه الدراما الروحية في حياة الكتّاب والمفكّرين الذين غادروا أوطانهم هربًا من القمع نحو الديمقراطيات الغربية مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبلدان أوروبا. هؤلاء حوّلوا المنفى إلى فعل إبداعيٍّ وإنسانيٍّ يعيد تعريف العلاقة بين الاغتراب والانبعاث.

في القرآن الكريم نجد أولى وأعمق صور الهجرة باعتبارها عبورًا من الطغيان إلى النور، ومن الاضطهاد إلى التحرر. تتجلى في قوله تعالى: «إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (العنكبوت: 26)، فيجعل من الهجرة فعلًا روحانيًّا خالصًا، لا بحثًا عن مأوى بل عن حقٍّ في الإيمان والكرامة. خرج إبراهيم من أور إلى كنعان مؤسسًا لمعنى الهجرة بوصفها موقفًا أخلاقيًّا من العالم. كما يُمثّل خروج النبي موسى عليه السلام ببني إسرائيل من مصر في قوله تعالى: «فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ» (الشعراء: 52)، ذروة الصراع بين الطغيان والإيمان. أمّا الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، التي أشار إليها القرآن في قوله تعالى: «إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ» (التوبة: 40)، فهي ليست هروبًا بل تأسيسٌ لدولةٍ جديدة على قيم العدالة والمساواة. وهكذا تُظهر الآيات الكريمة أن الهجرة ليست نهاية، بل بداية تحوّلٍ حضاريٍّ وإيمانيٍّ.

أما في الكتاب المقدس، فإنّ الهجرة تكتسب طابعًا رمزيًّا ووجوديًّا عميقًا. ففي سفر التكوين (12: 1-4)، يأمر الربّ إبراهيم أن يترك وطنه ليؤسس أمةً جديدة: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك». وتروي قصة يوسف (تكوين 37–50) كيف تحوّل النفي إلى قدرٍ نبوي، فباعه إخوته عبدًا ثم أصبح منقذًا لأهله من المجاعة. أما الخروج العظيم لبني إسرائيل في سفر الخروج (14)، فيجسّد الهجرة الجماعية من العبودية إلى الوعد. كذلك فإنّ هجرة العائلة المقدسة إلى مصر (متى 2: 13–15) هربًا من بطش هيرودس تمثل لحظة التقاء الإيمان بالخوف الإنساني. في كل هذه القصص، الهجرة امتحانٌ للروح لا للجسد، وفعلُ طاعةٍ للحقّ ضد الظلم.

وفي العصر الحديث، تعود الهجرة بثوبٍ جديد: ليست أوامر إلهية بل استجابات إنسانية للظلم السياسي والاجتماعي. فالمبدعون والمفكرون الذين عاشوا المنفى في القرنين العشرين والحادي والعشرين هم الورثة الجدد لتلك الرحلات النبوية القديمة. من أبرزهم الكاتبة الإيرانية عزر نفیسي (Azar Nafisi) المولودة عام 1948، صاحبة كتاب قراءة لوليتا في طهران: مذكرات في الكتب (Reading Lolita in Tehran, 2003)، التي غادرت إيران عام 1997 بعد طردها من جامعة طهران بسبب معارضتها الفكرية للنظام. تحوّلت مذكّراتها إلى رمزٍ عالميٍّ لتحرير الفكر والمرأة من قيود الأيديولوجيا. كما نجد الكاتب الليبي هشام مطر (Hisham Matar) المولود عام 1970 في نيويورك، الذي اضطر إلى مغادرة ليبيا في طفولته بعد اختفاء والده السياسي جاب الله مطر عام 1990 في سجون نظام القذافي. كتابه العودة: آباء وأبناء وأرض بينهما (The Return: Fathers, Sons and the Land in Between, 2016) ) فاز بجائزة بوليتزر للسيرة الذاتية (2017)، وصار مثالًا أدبيًّا على كيف تتحوّل الذاكرة السياسية إلى مشروعٍ إنسانيٍّ للمصالحة مع المنفى.

ويتواصل الخط الإنساني للهجرة في أعمال كُتّابٍ آخرين جسّدوا الغربة كقدرٍ وأداةٍ للمقاومة. من أبرزهم الكاتب الكردي الإيراني بهروز بوجاني (Behrouz Boochani) المولود عام 1983، الذي فرّ من إيران عام 2013 بعد اضطهاد النظام له بسبب عمله الصحفي، ليُعتقل في جزيرة مانوس التابعة لأستراليا لست سنوات. كتب روايته لا صديق سوى الجبال (No Friend But the Mountains, 2018) عبر رسائل نصية من هاتفٍ مهرب، ترجمها أوميد توفيغيان إلى الإنجليزية، وفازت بـ جائزة فيكتوريا للأدب (2019). تحوّل بوجاني إلى رمزٍ عالميٍ للهجرة القسرية والمقاومة الفكرية.

وفي السياق نفسه، قدّم الكاتب الأفغاني الأمريكي خالد الحسيني (Khaled Hosseini) المولود عام 1965 في كابول، رواياته عدّاء الطائرة الورقية(The Kite Runner, 2003)* وألف شمس مشرقة (A Thousand Splendid Suns, 2007)* التي رسمت ملامح الشتات الأفغاني في الولايات المتحدة. أما الكاتبة التركية البريطانية إليف شافاق (Elif Shafak) المولودة عام 1971 في ستراسبورغ، فقد واجهت الملاحقة في تركيا بسبب آرائها النسوية والعلمانية، واستقرت في لندن، حيث كتبت لقيطة إسطنبول (The Bastard of Istanbul, 2006) وعشر دقائق وثمانٍ وثلاثون ثانية في هذا العالم الغريب 10 (Minutes 38 Seconds in This Strange World, 2019) ، لتجعل من الهجرة مسرحًا فلسفيًّا للتعددية الثقافية والبحث عن الذات.

وإلى جانبهم، يقف الكاتب الصيني الأمريكي ها جين (Ha Jin) المولود عام 1956، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1985 بعد مذبحة تيانانمن عام 1989، وكتب بالإنجليزية عن الاغتراب والانقسام الثقافي في روايته الانتظار (Waiting, 1999) التي نالت جائزة الكتاب الوطنية الأمريكية. تتلاقى هذه السير المتنوعة عند نقطةٍ واحدة: الهجرة كتحوّلٍ من القمع إلى الوعي، ومن الصمت إلى الكلمة. وهؤلاء المبدعون، على اختلاف أصولهم، يجسدون المفهوم القرآني للهجرة كتحريرٍ للنفس من الخوف، والمفهوم التوراتي كخروجٍ نحو الوعد.

وفي خاتمة هذه الرحلة الفكرية، يتجلّى أن الهجرة ليست مجرّد انتقالٍ جغرافي بل فعلٌ أخلاقيٌّ يربط التاريخ المقدس بالمعاصر. فكما هاجر الأنبياء عبر التاريخ يهاجر اليوم ملايين البشر من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا إلى الغرب بحثًا عن كرامةٍ وأمنٍ وعدالة. والبلدان الغربية، رغم تناقضاتها، أصبحت “مدائن” جديدة تحتمي فيها الأرواح من الطغيان وتعيد بناء ذواتها بالعلم والفكر والعمل. إنّ الهجرة في بعض الأحيان شهادةُ ميلادٍ جديدة للإنسان، تؤكد أن المنفى قد يكون طريقًا إلى الخلاص، وأنّ كلّ منفيٍّ يبحث عن وطنٍ للحرية والسلام.