ثورة أيلول 1961م في فكر نيجيرفان بارزاني. محاولة للفهم

خاص لموقعhiwar:اكرم طالب الوشاح "انطلقت ثورة أيلول المجيدة في فترة معقدة وعصيبة كان شعب كوردستان يتعرض فيها للظلم والإنكار من كل جهة، وأصبحت الثورة الهوية والأساس للفكر القومي والوطني، ونفخت روحاً جديدة في الكوردستانيين للنهوض والتصدي. أصبحت المظلة الجامعة لجميع الطبقات والشرائح، وأسمعت العالم أجمع صوت الحق الجهور والنداء المطالب بالحق والحرية لشعب كوردستان، ليبرز كشعب حي محب للحياة وللسلام. نيجيرفان بارزاني"

سبتمبر 11, 2025 - 15:19
ثورة أيلول 1961م في فكر نيجيرفان بارزاني. محاولة للفهم

هذه الثورة العراقية الكردية، ليست حدثًا عابرًا في تاريخ كردستان، بل تجربة تاريخية متكاملة تحمل في طياتها فهمًا عميقًا لصيرورة النضال الكردي، وطبيعة العلاقة بين الشعب الكردي والدولة العراقية، وفلسفة المقاومة الوطنية. يرى نيجيرفان أن الثورة لم تكن مجرد مواجهة مسلحة، بل لحظة فاصلة تكشف إرادة شعب كامل على صعيد الهوية والكرامة والحقوق، وأن كل مرحلة من مراحلها، من التخطيط إلى التنفيذ، ومن المقاومة إلى الانعكاسات السياسية والاجتماعية، تحمل دلالات فلسفية وتاريخية واضحة.

وفق رؤيته، الثورة لم تنشأ في فراغ، بل هي نتيجة تراكمات تاريخية طويلة من الإقصاء والتهميش الذي تعرض له الكرد. العراق بعد تأسيسه لم يضمن مشاركة الكرد في السلطة بشكل حقيقي، بل استمر الإقصاء والضغط على مناطقهم. هذا السياق التاريخي شكل بيئة مناسبة لانطلاق الثورة، لكنه لم يكن كافيًا لإحداثها دون قيادة قوية واستراتيجية مدروسة. هنا يظهر دور مصطفى البارزاني، الذي برؤية نيجيرفان كان القائد الذي حول الغضب الشعبي والإحباط الجماعي إلى مشروع مقاومة متكامل، يجمع بين التخطيط العسكري والسياسة، ويعطي الثورة بعدها التاريخي والفلسفي.

نيجيرفان يصف الثورة بأنها “ثورة كل شعب كوردستان بجميع مكوناته”، وهو وصف يعكس فهمه للبعد الشمولي للحدث. فلسفته هنا ترتكز على أن الثورة لم تكن مجرد نزاع على السلطة أو الأرض، بل تجسيد لإرادة شعب في الحفاظ على هويته، وتأكيد مكانته على الخريطة السياسية، وصياغة علاقة جديدة مع الدولة والمجتمع الإقليمي. هذا الفهم يجعل الثورة حدثًا له أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية متداخلة، وليست مجرد صراع عسكري محدود.

يمكن تقسيم الثورة، من منظور نيجيرفان، إلى مراحل زمنية واضحة، كل منها يحمل أبعادًا سياسية وعسكرية وفلسفية. المرحلة الأولى بدأت بالتحضيرات والتنظيم بين البيشمركة وقادة المناطق. نيجيرفان يرى أن هذه المرحلة أساسية لفهم فلسفة الثورة، فهي تمثل التحول من حالة السخط الجماعي إلى مشروع منظم. كان التركيز على توحيد الصفوف، تدريب البيشمركة، تأمين أسلحة وإمدادات، وتنسيق التحركات بين المناطق المختلفة. مصطفى البارزاني، وفق رؤية نيجيرفان، لم يترك شيئًا للصدفة، بل وضع خطة استراتيجية لضمان الاستمرارية والفعالية.

المرحلة الثانية بدأت مع الانطلاق الفعلي للعمليات العسكرية في مناطق زاخو وأكد والدربندخان. هذه المرحلة أبرزت قدرة البيشمركة على الاستفادة من التضاريس الجبلية، والتحرك بسرعة لمفاجأة القوات الحكومية العراقية. فلسفة نيجيرفان ترى في هذه التحركات أكثر من مجرد تكتيكات عسكرية، فهي تعكس استراتيجية عميقة لإظهار قدرة الشعب الكردي على الصمود، وتحويل الضغط إلى أداة للتفاوض السياسي. كل هجوم كان محسوبًا بحيث يحقق الهدف العسكري دون إضعاف القدرة العامة للحركة، ويعكس فهمًا متقدمًا لكيفية إدارة الموارد البشرية والمادية في صراع طويل.

في هذه المرحلة، كان الحفاظ على المدنيين والمجتمعات المحلية جزءًا من فلسفة الثورة. نيجيرفان يشدد على أن مصطفى البارزاني لم يسمح باستخدام القوة بشكل عشوائي، وأن احترام الحياة وحقوق السكان أصبح معيارًا للقيادة، وهو ما أكسب الثورة شرعية شعبية وأثبت أن النضال يمكن أن يكون مشروعًا أخلاقيًا وسياسيًا في آن واحد. هذا البعد الإنساني، وفق نيجيرفان، جعل الثورة نموذجًا متكاملًا يجمع بين الفعل العسكري والوعي الوطني والأخلاقي.

المرحلة الثالثة، وفق تحليل نيجيرفان، شهدت توسع العمليات العسكرية نحو مناطق أخرى مثل العمادية ودهوك. كان الهدف تعزيز السيطرة على الطرق الاستراتيجية وتأمين مناطق التمركز للبيشمركة، وفي الوقت نفسه توصيل رسالة سياسية واضحة للعراق وللأطراف الإقليمية: أن الكرد يمتلكون القدرة على التنظيم العسكري والسياسي، وأن مطالبهم ليست قابلة للتجاهل. فلسفة هذه المرحلة، كما يشرح نيجيرفان، تتمحور حول الربط بين القوة العسكرية والاعتراف السياسي، بحيث تصبح المقاومة وسيلة لبناء قاعدة قوية للحقوق القومية.

المرحلة الرابعة تضمنت المواجهات مع القوات الحكومية العراقية، وتطوير شبكة اتصالات بين المناطق المختلفة لضمان الاستجابة السريعة لأي تهديد. هنا، يرى نيجيرفان أن الثورة بدأت تأخذ بعدًا تاريخيًا أوسع، إذ لم تعد مجرد صراع محلي، بل أصبحت اختبارًا لقدرة الشعب الكردي على الصمود أمام دولة أكبر وأكثر تجهيزًا. كل نجاح جزئي أو قدرة على الصمود كان يعزز فلسفة الاستمرارية في الثورة، ويظهر أن النضال لا يقتصر على المعارك المباشرة، بل يشمل التنظيم، التخطيط، والصبر طويل المدى.

في كل هذه المراحل، المواقف السياسية كانت جزءًا لا يتجزأ من فلسفة الثورة عند نيجيرفان. يرى أن مصطفى البارزاني لم يركز على المعارك فقط، بل كان دائم التفكير في التأثير السياسي للثورة داخليًا وخارجيًا، وكيفية استخدام نجاحات البيشمركة لتعزيز المطالب السياسية في بغداد ولدى القوى الإقليمية. فلسفته للثورة تؤكد أن النضال السياسي يجب أن يكون متوازيًا مع النضال العسكري، وأن تحقيق الاعتراف الرسمي بالحقوق يعتمد على القدرة على مزج القوة بالمبادرة الدبلوماسية والفكر الاستراتيجي.

نيجيرفان يولي أهمية خاصة للتأثير الاجتماعي للثورة. يرى أن الثورة ساعدت في توحيد المجتمع الكردي، وخلق روح تضامن بين القبائل والمناطق المختلفة، وهو عنصر أساسي لاستدامة النضال. فلسفة الثورة عنده تعكس الاعتقاد بأن الوحدة الاجتماعية ليست مجرد أداة تكتيكية، بل هي مبدأ فلسفي يعكس قدرة الشعب على حماية هويته وتنظيم ذاته، وتحويل التضحيات الفردية إلى قوة جماعية مستمرة.

المرحلة الخامسة تركزت على التعامل مع نتائج المعارك والانتصارات الجزئية، وإعادة ترتيب الأولويات لتجنب استنزاف الموارد. نيجيرفان يصف هذه المرحلة بأنها اختبار للوعي السياسي والتاريخي، حيث تصبح القدرة على التعلم من الأخطاء وتحويلها إلى أدوات للتطوير معيارًا رئيسيًا لنجاح الثورة. مصطفى البارزاني طبق فلسفة القيادة الحكيمة، التي تراعي استمرار الحركة وتوازن القوى، مع الحفاظ على الهدف الأساسي: حقوق الكرد والاعتراف الرسمي بها.

المرحلة السادسة والأخيرة، وفق رؤية نيجيرفان، هي مرحلة التأثير طويل المدى، حيث بدأت الثورة تشكل قاعدة لكل المكاسب المستقبلية، سواء على صعيد الاعتراف السياسي، أو تعزيز الهوية القومية، أو تشكيل رؤية استراتيجية للشعب الكردي. فلسفته للثورة هنا تؤكد أن الحدث التاريخي يصبح ذا معنى عندما يمتد تأثيره على الأجيال القادمة، ويصبح معيارًا لفهم العلاقة بين القوة، الإرادة، والحق في التاريخ. الثورة بهذا المعنى ليست مجرد ذكرى، بل تجربة مستمرة تعكس القدرة على صوغ المستقبل وفق مبادئ الكرامة والحرية والوحدة الوطنية.

نيجيرفان يرى أن ثورة أيلول 1961م قدمت درسًا متكاملاً حول طبيعة النضال الكردي. هي درس في القيادة الحكيمة، تنظيم الصفوف، احترام المبادئ، والموازنة بين القوة العسكرية والذكاء السياسي. وهي درس في القدرة على تحويل التجارب الصعبة إلى أدوات للتمكين الوطني، وفي القدرة على توحيد المجتمع حول أهداف مشتركة. الثورة بهذا الشكل تصبح نموذجًا للفهم التاريخي والفلسفي للنضال، وتجربة عملية في كيفية صناعة إرادة جماعية قادرة على مواجهة التحديات المستمرة.

لذلك يرى نيجيرفان أن الثورة ليست مجرد حدث عسكري، بل هي مشروع وطني شامل، له أبعاد فلسفية وتاريخية. كل مرحلة من مراحلها، كل معركة، وكل قرار سياسي يعكس فهمًا عميقًا لكيفية ممارسة الإرادة الجماعية، وكيفية الحفاظ على الهوية والكرامة، وكيفية تحويل النضال إلى تجربة مستمرة عبر الأجيال. فلسفته للثورة تؤكد أن النضال التاريخي ليس مجرد مواجهة، بل هو عملية مستمرة لبناء مجتمع قادر على حماية ذاته وتحقيق حقوقه، وتجسيد صيرورة شعب في مواجهة التحديات التاريخية المتعددة، بما يجعل ثورة أيلول علامة فارقة في التاريخ العراقي والكردي، ومصدرًا دائمًا للدرس والإلهام للأجيال القادمة.

لذلك يقول نيجيرفان بارزاني اليوم عنها:"كانت ثورة كل مكونات كوردستان، وكانالجميع فيها صفاً واحداً متلاحماً يناضل ويضحي من أجل هدف واحد".

وهو مصيب في ذلك....