موقف الرئيس نيجيرفان بارزاني من الصراعات الطائفية في عراق ما بعد 2003

لينا بنيامين داود
مع سقوط بغداد عام 2003، دخل العراق مرحلة جديدة من الاضطراب السياسي والاجتماعي والأمني، حيث تفككت مؤسسات الدولة وعمّت الفوضى، مما أدى إلى تعرض مختلف شرائح المجتمع، وعلى رأسها المكونات الدينية والقومية، إلى أوضاع مأساوية. نحن المسيحيين، الذين كنا جزءًا أصيلًا من النسيج الحضاري لبلاد ما بين النهرين لقرون طويلة، وجدنا أنفسنا من أبرز ضحايا هذا الانهيار، إذ تعرضنا لحملة شرسة من التهجير القسري، والقتل، وتدمير الكنائس والأديرة، ومصادرة الممتلكات، في ظل غياب شبه كامل لسلطة القانون وتراجع مظاهر الحماية الرسمية.
ومع مرور السنوات، بات واضحًا أن غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإعادة بناء دولة مدنية عادلة ترك آثارًا كارثية على التنوع الديني والثقافي في العراق، حيث تقلص عدد المسيحيين بشكل غير مسبوق، وهاجرت آلاف العائلات بحثًا عن الأمان والاستقرار في بلدان أخرى. واليوم، لا تزال قضية حماية الوجود المسيحي في العراق تمثل تحديًا كبيرًا، في ظل استمرار التحديات الأمنية وغياب رؤية واضحة لاحتواء هذه المكونات وضمان حقوقها. أصبح إقليم كوردستان الملاذ الآمن للعوائل المسيحية بعد عام 2003. حيث برز إقليم كوردستان بقيادة الرئيس نيجيرفان بارزاني كجهة إنسانية ملتزمة بمبادئ التعايش السلمي. ورغم أن حماية المسيحيين لم تكن ضمن مسؤوليات إقليم كوردستان المباشرة، ولكن الرئيس نيجيرفان بارزاني قرر أن يتخذ موقفًا إنسانيًا وأخلاقيًا، فاستقبلت آلاف النازحين المسيحيين، ووفّرت لهم الملاذ الآمن، والسكن، وحرية ممارسة شعائرهم الدينية، إلى جانب الدعم المجتمعي والمعنوي.
اذ بعد عام 2003، عانت العوائل المسيحية في بغداد من موجة عنف قاسية لم تقتصر على التهديدات، بل امتدت إلى تنفيذها بوحشية، حيث تعرضت البيوت للتفجير، والأفراد للقتل على الهوية، والخطف، والاعتداءات المتكررة. كما لم تسلم الكنائس وأماكن العبادة من التفجير والتخريب، مما جعل الحياة في العاصمة العراقية بغداد شديدة الخطورة على هذه العائلات، التي وجدت نفسها مجبرة على البحث عن ملاذ آمن يحميها من هذا المصير القاتم.
في ظل هذا الواقع المأساوي، كان إقليم كوردستان الوجهة الوحيدة التي استقبلت المسيحيين النازحين بأذرع مفتوحة، ليس فقط كضيوف مؤقتين، بل كمواطنين يستحقون الحياة الكريمة. حيث حصلت العائلات على الحماية والأمان، إلى جانب توفير فرص العيش الكريم، حيث أُدرجت أسماؤهم في الوظائف الحكومية والخاصة، وتم دعمهم في مختلف القطاعات، سواء في مجالات التعليم، أو العمل، أو الاستثمار، مما أتاح لهم فرصة حقيقية لإعادة بناء حياتهم بعيدًا عن الخوف والاضطهاد.
لم يكن هذا الدعم مجرد استجابة طارئة، بل كان انعكاسًا للالتزام العميق بمبادئ التعايش السلمي واحترام التنوع الديني والقومي. ورغم التحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي واجهها إقليم كوردستان، إلا أنه لم يتراجع عن مسؤوليته الأخلاقية، بل استمر في تقديم كل ما يمكن لضمان استقرار النازحين وتمكينهم من أن يصبحوا جزءًا فاعلًا في المجتمع الجديد الذي احتضنهم.
إن تجربة المسيحيين في العراق بعد 2003 تؤكد أن الأمان والاستقرار لا يتحققان فقط بالقوانين أو التصريحات السياسية، بل من خلال الأفعال والمواقف الإنسانية الحقيقية، كما قدمها إقليم كوردستان، ليكون نموذجًا حقيقيًا للتعايش والشراكة في وطن واحد يسع الجميع.
ورغم أن إعادة بناء الدولة العراقية كانت مسؤولية دولية، خاصةً الولايات المتحدة، إلا أن إقليم كوردستان لم يتوانَ عن تقديم المساعدة في مجالات تتجاوز اختصاصها المباشر، مما أظهر التزامًا أخلاقيًا عميقًا تجاه جميع العراقيين دون تمييز. إن هذه التجربة تشكل درسًا مهمًا في أن المبادئ الإنسانية لا تحتاج إلى تفويض دولي، بل إلى إرادة صادقة للعمل من أجل الخير المشترك.