تحليل تداعيات التغيير السياسي في العراق بعد 2003

سيروان عبدالكريم علي
سياسي أكاديمي
منذ فجر التاريخ، كانت بغداد عاصمة الحضارة والعلم والثقافة، مدينة ألف ليلة وليلة التي أبهرت العالم بإنجازاتها ومآثرها. لكن كان من قدر هذه المدينة العريقة أن تشهد تقلبات سياسية وعسكرية متلاحقة، كان آخرها ما جرى في عام 2003، حين دخلتها القوات الأمريكية تحت شعار "التحرير"، لتبدأ معها مرحلة جديدة من تاريخ العراق المعاصر، مرحلة اختلطت فيها المفاهيم، وتباينت حولها الرؤى والتفسيرات. في هذا المقال، نحاول تسليط الضوء على المشهد العراقي من زوايا مختلفة، لنفهم كيف تحول "التحرير" إلى احتلال، وكيف أدى سقوط بغداد إلى تفكيك مؤسسات الدولة العراقية، وما هي التداعيات التي نعيشها اليوم بعد أكثر من عقدين من الزمن.
بدأت الحملة العسكرية الأمريكية على العراق تحت عنوان "تحرير" الشعب العراقي من "الطاغية" صدام حسين، وإنقاذ العالم من خطر أسلحة الدمار الشامل التي زُعم أن النظام العراقي يمتلكها. تم تسويق هذه الحملة إعلامياً كحرب وقائية ضرورية لأمن المنطقة والعالم، وكعملية إنسانية تهدف لإنهاء معاناة العراقيين تحت حكم دكتاتوري قمعي. غير أن هذا الخطاب لم يصمد طويلاً، فبسرعة فائقة، وحين تبين عدم وجود أسلحة دمار شامل، وحين بدأت الولايات المتحدة في تأسيس هيئة سلطة الائتلاف المؤقتة، تحول الخطاب من "التحرير" إلى الاعتراف بـ"الاحتلال". كان هذا التحول ضرورياً من الناحية القانونية لتبرير الهيمنة على مؤسسات الدولة العراقية وإعادة تشكيلها وفق رؤية المحتل. وهكذا، أصبح "المحرر" محتلاً، وأصبحت قوات التحالف قوات احتلال، تخضع لالتزامات وحقوق محددة بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.
حين سقط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد في 9 نيسان 2003، لم يكن ذلك مجرد سقوط رمزي، بل كان إعلانًا لانهيار الدولة العراقية بكل مؤسساتها، وكان انهيار المؤسسة العسكرية أولى الضربات وأشدّها وقعًا، حيث قام بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي للعراق، بحل الجيش العراقي بموجب الأمر رقم 2، مما أدى إلى تسريح مئات الآلاف من العسكريين والضباط، وإهدار خبرات عسكرية تراكمت على مدى عقود. تبع ذلك تفكيك منهجي لمؤسسات الدولة الأخرى، بدءاً بحزب البعث واجتثاثه من المجتمع، مروراً بالوزارات والمؤسسات الحكومية، وانتهاءً بالأجهزة الأمنية والاستخبارية. كانت النتيجة فراغاً مؤسسياً هائلاً، لم تستطع الإدارة الأمريكية ملأه، رغم كل الموارد المادية والبشرية التي خصصتها لإعادة بناء الدولة العراقية.
من المفارقات اللافتة في قصة سقوط بغداد، أن معظم أعضاء القيادة البعثية، بما فيهم صدام حسين نفسه، سقطوا في أيدي القوات الأمريكية واحداً تلو الآخر، باستثناء نائب الرئيس عزة الدوري الذي ظل طليقاً لسنوات طويلة. هذا اللغز أثار العديد من التساؤلات والشكوك حول طبيعة الاتفاقات السرية التي ربما أبرمت بين الجانب الأمريكي وبعض القيادات العراقية السابقة، وحول حقيقة المقاومة العراقية للغزو الأمريكي، وهل كانت حقيقية أم مجرد مسرحية لذر الرماد في العيون.
كما أثار تساؤلات حول كيفية نجاح الدوري في الإفلات من قبضة القوات الأمريكية لكل هذه السنوات، رغم كل التقنيات والإمكانيات الاستخبارية التي تمتلكها، وهل كان ذلك بتواطؤ أمريكي لإبقاء شبح البعث حاضراً في المشهد العراقي، لتبرير استمرار الوجود الأمريكي في العراق، أم أن هناك تفسيرات أخرى لهذه الظاهرة الغريبة. ها نحن اليوم، بعد أكثر من عقدين من الزمن، نشهد عراقاً يتجه نحو مزيد من التفكيك والتشرذم، نتيجة لعوامل متعددة، نذكر بعضا منها.
مع سقوط نظام البعث، انفجرت الصراعات الطائفية المكبوتة في المجتمع العراقي، وتحولت بغداد وغيرها من المدن العراقية إلى ساحات للاقتتال الطائفي بين السنة والشيعة. أدت هذه الصراعات إلى تهجير قسري لملايين العراقيين من مناطق سكناهم، وإلى تقسيم المدن العراقية، وخاصة بغداد، إلى كانتونات طائفية معزولة، يصعب التنقل بينها. كما أدت إلى تكريس الانقسام السياسي في البلاد، حيث أصبحت الهويات الطائفية هي الأساس في تشكيل الأحزاب والتحالفات السياسية، وفي توزيع المناصب والوظائف العامة.
مع انهيار مؤسسات الدولة العراقية، وغياب الرقابة والمحاسبة، استشرى الفساد في جميع مفاصل الدولة والمجتمع، وأصبح العراق من أكثر دول العالم فساداً، وفقاً لمؤشرات منظمة الشفافية الدولية. أدى هذا الفساد إلى هدر موارد العراق النفطية الهائلة، وإلى تدهور الخدمات العامة، وإلى تعميق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وإلى إضعاف شرعية النظام السياسي برمته. شكل سقوط نظام البعث فرصة ذهبية لدول الجوار العراقي للتدخل في الشؤون الداخلية للعراق، وللتأثير على مسار الأحداث فيه، بما يخدم مصالحها.
وقد أخذ هذا التدخل أشكالاً متعددة، من دعم الميليشيات المسلحة، إلى التدخل في الانتخابات، إلى التأثير على القرار السياسي العراقي، إلى تهريب النفط والآثار، إلى إغراق السوق العراقية بالمنتجات المستوردة وإضعاف الصناعة المحلية. ما يثير الاستغراب والأسى، هي تلك الروح الانتقامية التي تعاملت بها بعض دول الجوار مع العراق بعد سقوط نظام البعث. فبدلاً من الاكتفاء بالانتقام من النظام البعثي وقياداته، امتد هذا الانتقام ليشمل الشعب العراقي بأكمله، وأرضه، واقتصاده، وإمكانياته.
تمثلت هذه الروح الانتقامية في دعم الميليشيات التي استهدفت المدنيين العراقيين، وفي تهريب النفط العراقي، وفي سرقة الآثار العراقية، وفي تدمير البنية التحتية، وفي تحويل العراق إلى سوق لتصريف المنتجات الرديئة، وفي تجفيف الأنهار التي تغذي العراق بالمياه، وفي التلاعب بأسعار النفط، وفي غير ذلك من الممارسات التي أضرت بالعراق وشعبه.
رغم كل هذه التحديات والمآسي، يظل العراق بلد الإمكانيات الهائلة، بفضل موقعه الجغرافي الاستراتيجي، وموارده النفطية الضخمة، وتراثه الحضاري العريق، وشعبه المتعلم والمثقف. وما زال هناك أمل في أن يستعيد العراق عافيته، وأن يستعيد دوره الإقليمي، وأن يعود ليكون مركزاً للأمن والاستقرار والازدهار.
لكن تحقيق هذا الأمل يتطلب إصلاحات جذرية في النظام السياسي العراقي، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية وعلمية، بعيداً عن المحاصصة الطائفية والفساد، كما يتطلب تعزيز الوحدة الوطنية، ونشر ثقافة التسامح والتعايش بين مختلف مكونات المجتمع العراقي، وترسيخ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. كما يتطلب سياسة خارجية متوازنة، تقوم على احترام سيادة العراق واستقلاله، وعلى بناء علاقات حسن جوار مع دول المنطقة، بعيداً عن التدخل في الشؤون الداخلية. إن مستقبل العراق ليس محتوماً، بل هو رهن بإرادة أبنائه، وبمدى قدرتهم على تجاوز خلافاتهم، وعلى بناء وطن يتسع للجميع. وإن بغداد، التي كانت يوماً عاصمة الدنيا، قادرة على النهوض من رمادها، كما نهضت مراراً وتكراراً عبر تاريخها الطويل، لتعود فتبهر العالم من جديد بعطائها وإبداعها.