أنطاليا ونيجيرفان بارزاني السياسي المفكر عندما يتحدث.
خاص لموقع hiwar/د هوشيار مظفر علي أمين:ينعقد منتدى أنطاليا الدبلوماسي الرابع في لحظة فارقة من التوترات الدولية، والانقسامات الجيوسياسية، وتراجع أدوات الحوار التقليدية. اختارت تركيا، البلد المضيف، أن يكون شعار المنتدى لهذا العام: “التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، وهو ليس شعارًا بل توصيف دقيق للواقع الراهن.

منذ انطلاقه في 2021، أصبح هذا المنتدى منبرًا مفتوحًا يجمع بين صناع القرار، ومراكز الفكر، والمنظمات الدولية، ومسؤولي الحكومات.
وفي نسخته الحالية، يشارك أكثر من أربعة آلاف ضيف، من بينهم:
• 20 رئيس دولة وحكومة
• 50 وزير خارجية
• 70 وزيرًا في قطاعات مختلفة
• 60 ممثلاً عن منظمات إقليمية ودولية كبرى
يُعقد المنتدى في مركز المؤتمرات بمنطقة بيليك في ولاية أنطاليا، برعاية مباشرة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبإشراف وزارة الخارجية التركية.
في ظل هذا الحضور المكثف، وفي ظل الأجندة الغنية بـ52 جلسة نقاشية، تأتي مشاركة نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان، لتشكل حالة خاصة.
المشاركة الثالثة: مؤشر لا مجاملة
مشاركة نيجيرفان بارزاني ليست الأولى، بل هي الثالثة بعد حضوره في دورتي 2022 و2024.
هذا التكرار ليس تفصيلًا بروتوكوليًا، بل يعكس أمرين:
1. اعتراف تركي وأوروبي وعالمي متزايد بموقع إقليم كوردستان في المعادلات الإقليمية
2. قراءة عميقة لطبيعة الدور الذي يلعبه بارزاني كجسر بين الهويات، وكفاعل في ملفات تتجاوز حدود الإقليم
مشاركة بارزاني تأتي بناءً على دعوة رسمية من الحكومة التركية، تمامًا كما دُعي رؤساء دول وحكومات، مما يشير إلى مستوى التقدير لشخصه ولموقعه السياسي.
حضور بعقل دولة: تجاوز حدود الإقليم
نيجيرفان بارزاني لا يتحرك بعقلية تمثيل محلي أو بموقع مكون داخل العراق، بل بعقلية رجل دولة ينظر إلى الخارطة الكاملة.
خطابه السياسي في هذه المحافل يرتكز على عناصر محددة:
• التمسك بالدستور العراقي كأساس لتنظيم العلاقة بين المركز والإقليم
• الدفاع عن التعددية داخل العراق، دون السقوط في خطاب الانفصال أو التمايز
• تعزيز التعاون مع بغداد في الملفات السيادية، خاصة الطاقة والأمن والسياسة الخارجية
• فتح قنوات الحوار مع الجوار، بما يخدم استقرار الإقليم والعراق عمومًا
هذا الطرح المتماسك يجعل منه صوتًا متوازنًا وسط الضجيج السياسي العراقي.
فهو لا يدافع عن كوردستان بمنطق الندية السلبية، بل بمنطق الشراكة الإيجابية.
موقع كوردستان في الحسابات التركية
تركيا تنظر إلى كوردستان كجبهة أمامية لها أبعاد أمنية واقتصادية وجيوسياسية.
• أمنيًا: الإقليم هو منطقة تماس مع مناطق النفوذ الكردي في سوريا، ومع حزب العمال الكردستاني. أنقرة تعتبر استقرار كوردستان عاملًا مساعدًا في تحجيم التهديدات الأمنية.
• اقتصاديًا: كوردستان تمثل بوابة لأنبوب النفط الممتد إلى ميناء جيهان، وسوقًا استهلاكية متنامية للمنتجات التركية.
• سياسيًا: أنقرة تدرك الفروقات بين أربيل وبغداد، وترى في نيجيرفان شخصية يمكن الحوار معها دون حسابات أيديولوجية.
لذلك، فإن حضوره المتكرر إلى أنطاليا ليس مجرد دبلوماسية عامة، بل تجسيد لعلاقة خاصة، قائمة على التفاهم المشترك لا على التبعية.
الأجندة العالمية وحديث الدولة
منتدى أنطاليا يناقش قضايا متعددة، منها:
• التغير المناخي
• الأمن الغذائي
• الذكاء الاصطناعي
• التحول الرقمي
• مكافحة الإرهاب
• المساعدات الإنسانية
• الأزمات الإقليمية
هذه ليست ملفات نظرية.
كل واحدة منها تمس كوردستان بشكل مباشر:
• المناخ: الإقليم يواجه جفافًا متصاعدًا ونقصًا في الموارد المائية
• الأمن الغذائي: يعتمد على بغداد والتمويل الاتحادي لتأمين الحصص التموينية
• الإرهاب: لا تزال هناك تهديدات من بقايا داعش، ومن تحركات مسلحة قرب الحدود
• التحول الرقمي: تحدٍ أمام المؤسسات الكوردية المحدودة الموارد
نيجيرفان بارزاني يشارك في هذه النقاشات ليس كضيف، بل كصاحب تجربة، يسعى لنقل واقعه وتحدياته وتصوراته إلى طاولة البحث الدولي.
توقيت حساس: اجتماع أمني عراقي-تركي
على هامش المنتدى، يُعقد اجتماع لآلية الأمن رفيعة المستوى بين تركيا والعراق.
هذا الاجتماع يأتي في ظل تنامي التوترات على الحدود، وتصاعد عمليات تركيا العسكرية داخل الأراضي العراقية.
وجود نيجيرفان بارزاني في التوقيت نفسه يحمل رسائل واضحة:
• دعم التعاون الأمني العراقي التركي ضمن سقف السيادة العراقية
• تأكيد أن الإقليم شريك في الأمن القومي لا مصدر تهديد
• رفض أن تتحول الأرض الكوردية إلى ساحة تصفية حسابات خارجية
بارزاني يتحرك في هذا الملف بدقة، إذ يوازن بين منع النشاطات المعادية لتركيا على أرض الإقليم، وبين حماية السيادة العراقية وعدم تحويل الإقليم إلى قاعدة خلفية لأي تدخل.
ما الذي يجعل نيجيرفان مختلفًا؟
في المشهد العراقي، قلما يظهر سياسي يستطيع التحدث بلغة الأرقام والمصالح بدلًا من الشعارات.
نيجيرفان بارزاني يختلف في:
• رؤيته الاقتصادية طويلة الأمد
• تفكيره الإقليمي المتزن
• إيمانه بالحوار الدستوري مع بغداد
• قدرته على كسب ثقة قوى دولية دون التفريط بهوية الإقليم
هو لا يزايد على بغداد، ولا يخاصمها.
ولا يغازل تركيا أو إيران على حساب العراق، بل يفاوضهما بموقع العراق لا خارجه.
نيجيرفان بارزاني يدخل منتدى أنطاليا كرئيس لإقليم، لكنه يتحدث كرجل دولة.
يدرك حجم التحديات التي تواجه الإقليم، لكنه يرى أن الحل لا يأتي من الانغلاق أو التصعيد، بل من التفاوض والمبادرة وبناء الشراكات.
يحمل معه رؤية كوردستانية للعراق، ورؤية عراقية للمنطقة، ورؤية إقليمية لعالم متعدد الأقطاب.
وفي منتدى أنطاليا، حيث تختلط اللغات والأجندات، سيكون صوته واحدًا من الأصوات القليلة التي تتحدث بوضوح واتزان في زمن الضجيج والانقسام.