إيلاف: نيجيرفان بارزاني مهندس دبلوماسية العراق الهادئة

في منطقة تزدحم بالتحالفات المتبدلة والصراعات المفتوحة، ظل العراق لعقود طويلة حبيس صورته كميدان تجاذب لا كفاعل مستقل. غير أن بصمة نيجيرفان بارزاني على الساحة الخارجية أفرزت مشهداً مغايراً؛ إذ استطاع أن يعيد رسم ملامح الدور العراقي بهدوء محسوب، جامعاً بين الحصافة السياسية وفهم عميق لتحولات الإقليم والعالم. لم يكن مجرد رئيس لإقليم كردستان، بل صاغ لنفسه موقعاً يتيح له أن يتحدث باسم العراق كله — عراق ينشد الاستقرار ويتطلع للانفتاح.
على امتداد أكثر من عقدين، ظل المشهد السياسي العراقي أسيراً للاصطفافات والهويات الفرعية، ما أضعف حضوره على الساحة الدولية وأربك قدرته على رسم صورة مستقرة عن ذاته أمام العالم.
إلا أن تجربة نيجيرفان بارزاني قدّمت نموذجاً مختلفاً لقيادة تنأى بنفسها عن خطوط التماس التقليدية، وتتبنى مقاربة أهدأ، أكثر اتزاناً وبراغماتية، تعيد تقديم العراق كفاعل موثوق ومتزن في محيطه وخارجه. منذ سنواته الأولى في العمل السياسي، أدرك بارزاني أن لغة الشعارات لا تصلح لتأسيس نفوذ خارجي حقيقي. عوضاً عن ذلك، اعتمد نهجاً يرتكز على بناء توازنات دقيقة مع الأطراف الدولية والإقليمية، متجنباً قدر الإمكان الوقوع في فخ المحاور المتصارعة.
فقد حافظ على خطوط اتصال مفتوحة مع القوى الكبرى مثل واشنطن وبروكسل، دون أن يفرط في علاقاته مع أنقرة أو طهران، وفي الوقت ذاته، عمل على استكشاف فرص تعاون مع موسكو وبكين، واضعاً في الحسبان حساسية الملفات الأمنية والاقتصادية. ما ميّز بارزاني، لم يكن فقط فيمن التقى أو مع من تحاور، بل كيف قدّم نفسه. ففي المحافل الدولية، لم يظهر كرئيس لإقليم كردستان فحسب، بل كممثل لعراق يريد أن يكون موحداً. خطابه كان منصباً دائماً على فكرة أن تنوع البلاد مصدر قوة وليس هشاشة، داعياً الشركاء الدوليين إلى التعامل مع العراق كدولة لها عمق واتساع، لا كمجموعة مكونات تتنافس فيما بينها.
في خلفية هذه الحركة الدبلوماسية النشطة، برزت ملامح دور خفي لم تُسلط عليه الأضواء كثيراً: وسيط يسعى لتقريب وجهات النظر بين أطراف متخاصمة. سواء باستضافة لقاءات غير معلنة بين مسؤولين من تركيا وإيران، أو بتسهيل التواصل بين بغداد وعواصم عربية، ظل بارزاني يعمل بصمت لإعادة العراق إلى موقعه الطبيعي كمركز توازن إقليمي، بعيداً عن أدوار التأجيج أو التصعيد. في المجال الاقتصادي، انتهج رؤية ترى أن استقطاب الاستثمارات هو مدخل أساسي لتعزيز استقرار البلاد.
ركّز على تحويل إقليم كردستان إلى نقطة انطلاق مريحة للشركات العالمية نحو بقية العراق، مقدماً ضمانات قانونية وأمنية، ومُبرزاً مجالات واعدة مثل الطاقة والزراعة والبنية التحتية. هذه الرؤية لم تكن معزولة عن سياسته النفطية، إذ تعامل مع ملف الطاقة بحذر واضح. اختار طريق التفاوض مع بغداد بدلاً من المواجهة المفتوحة، معتمداً خطاب "الشراكة الاقتصادية الوطنية" بدلاً من خطاب الانفصال أو الاستقلالية التامة.
الملفت أيضاً هو حساسيته حيال قضايا التنوع الديني والثقافي في العراق. نادراً ما يخلو حديث له من تأكيد على حماية الأقليات، ليس كواجب أخلاقي فقط، بل كركيزة لاستقرار الدولة. مواقفه الداعمة للمسيحيين والإيزيديين والتركمان عُدّت استثنائية في بيئة سياسية غالباً ما تتجاهل هذه الملفات. أما في ملف الأمن، فقد أثبت قدرته على ضبط النفس، رافضاً الزج بالإقليم في النزاعات المحيطة رغم الضغوط المتكررة. هذه السياسة جنبّت الإقليم مواجهات عسكرية مدمرة، ورسّخت صورته كطرف رصين يفضّل السلام على المغامرات.
مجمل هذه العوامل كوّنت مع الوقت صورة لزعيم سياسي عراقي نادر، يوازن ببراعة بين واقعية المصالح وجاذبية المبادئ. لم يكن الأقوى من حيث أدوات السلطة التقليدية، لكنه كان الأكثر قدرة على تقديم العراق كدولة لديها رؤية للمستقبل، تتحدث بلغة الاستقرار والشراكة لا بلغة الخصومة والانقسام. نجاح نيجيرفان بارزاني لا يمكن قراءته كنجاح فردي محض، بل كنموذج لإمكانية بناء دبلوماسية عراقية جديدة — هادئة، مرنة، وعقلانية — تتجاوز عقد الماضي وتعيد تموضع البلاد في الخارطة الإقليمية والدولية على أسس أكثر صلابة.
هيدايت هاشم