"كل الأسماء": متاهة الوجود في سجلّ الموتى والأحياء

خاص لموقعhiwar: بقلم: احمد العتبي:"إن التاريخ يُكتب بأكاذيب كبيرة لا تُفضح أبداً، لأنه لا أحد يملك الشجاعة ليُسجل الحقيقة في كل الأحوال". (من الرواية)

سبتمبر 2, 2025 - 17:38
سبتمبر 2, 2025 - 18:13
"كل الأسماء": متاهة الوجود في سجلّ الموتى والأحياء

في عالم الأدب المعاصر، لا يمكن الحديث عن أيقونات السرد الفلسفي دون ذكر اسمجوزيه ساراماغو. هذا الكاتب البرتغالي، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام (1998 لميكتب روايات تقليدية بقدر ما كان يخلق عوالم فكرية فريدة، تكسر كل قوالب السردالمألوفة. ومن بين أبرز أعماله التي تجسد هذا النهج، تبرز رواية كل الأسماء (1997)كعمل فني يمثل ذروة تجربة ساراماغو في استكشاف قضايا الهوية، الوجود، الاكاذيبوالحقائق، والبيروقراطية القامعة للروح الإنسانية.. 

تبدأ الرواية في فضاء غريب ومثير للقلق: السجل المركزي للمواليد والزيجاتوالوفيات. هذا المكان ليس مجرد أرشيف، بل هو نسخة مصغرة من الكون، حيثتُحفظ فيه كل أسماء البشر، الأحياء منهم والأموات، في نظام بيروقراطي صارم أشبهبسجن للأرواح. في هذا العالم الرمادي، يعيش موظف بسيط يُدعى السيد جوزيه، وهوالوحيد الذي يطلق عليه الكاتب اسماً، في إشارة إلى كونه "الكائن" الوحيد الذي يحاولالتمرد على هذه الآلية الوجودية. حياة السيد جوزيه عبارة عن روتين يومي قاتم، تتمثلمهمته الوحيدة في نسخ البطاقات وتصنيفها، في وظيفة تحوّل الإنسان إلى ترس في آلةلا ترحم.

يمكن ربط فكرة النظام البيروقراطي للسجل المركزي للمواليد والزيجات والوفياتلدى ساراماغو مع أفكار "ميشيل فوكو" حول التحكم الاجتماعي وسلطة المؤسساتكالسجن، المستشفى، أو في هذه الحالة، السجل المدني.. التي تُشكل وتُصنف الأفراد. كما يمكن إجراء مقاربة ثانية مع أفكار "فرانتس كافكا" في رواياته، حيث يواجه الفردنظاماً إدارياً غامضاً وقمعياً.

هذا الروتين ينكسر صدفة عندما يكتشف السيد جوزيه بطاقة لامرأة مجهولة. ليستشخصية مشهورة أو تاريخية كما اعتاد أن يجمع في هوايته السرية، بل هي مجرد "امرأةعادية".. أيّ امرأة "الأسماء هي مجرد أسماء، ليست أكثر من ذلك، الحياة هي التيتمنحها المعنى" وهذه الصدفة البسيطة هي شرارة التمرد الأولى. هنا، تبدأ الروايةرحلتها الفلسفية، حيث يتحول البحث عن اسم هذه المرأة المجهولة إلى رحلة وجوديةعميقة

يغامر السيد جوزيه، الذي لم يخرج من قوقعة حياته المكتبية يوماً، بالخروج من أسوارالسجل، ويخاطر بمسيرته المهنية وحياته الهادئة من أجل تتبع أثر هذه المرأة. يصبحهدف البحث عن هويتها بمثابة بحثه عن هويته الخاصة، عن معنى لحياته التي كانتفارغة ومجردة من أي شغف.

يُقدم ساراماغو في "كل الأسماء" نقداً لاذعاً للبيروقراطية التي تختزل البشر إلى مجردأرقام وملفات. السجل المركزي ليس إلا استعارة للنظام القامع الذي يحاول إخضاعالأفراد وتجريدهم من إنسانيتهم. إن تكسير السيد جوزيه للقواعد الصارمة هو فعلتمرد نبيل ضد هذه الآلة.

هو يرفض أن يكون مجرد اسم في قائمة، ويبحث عن المعنى خلف الأسماء، في حياةالأشخاص الفعلية. من خلال رحلته، يكتشف أن الأسماء وحدها لا تكفي لتعريفالإنسان، وأن القيمة الحقيقية تكمن في التجارب، العلاقات، والأسرار التي لا يمكن أنتسجلها أي بطاقة، كما في الاقتباس: "في النهاية، كل ما يهم هو أن نكون قد أحببنا. وأننكون قد عشنا".

عندما يقرر السيد جوزيه الخروج عن مساره الروتيني والبحث عن امرأة غريبة لم يعرفهاإلا من خلال ملفها، فإنه يقوم بـ"فعل وجودي" بامتياز. إنه يتمرد على نظام الحياةالمحدد مسبقًا، ويُدرك أن معنى حياته ليس في الامتثال للقواعد، بل في البحثالشخصي، حتى لو كان هذا البحث غير منطقي.

يمكن هنا مقاربة هذا التمرد الفردي مع أفكار فلاسفة الوجودية مثل "جان بول سارتر"الذي أكد على أن "الوجود يسبق الماهية"، أي أن الإنسان يولد بلا معنى محدد مسبقاً،وعليه أن يصنع معناه بنفسه من خلال خياراته وأفعاله. كذلك، يمكن الربط مع أفكار"البير كامو" حول "العبث"، حيث يواجه الإنسان عالماً بلا معنى، وعليه أن يجد قيمةالحياة في ذات التمرد على هذا العبث.

كما يتعمق ساراماغو في مفهوم الحياة والموت. ففي السجل، يتم تخزين أسماء الأحياءوالموتى جنباً إلى جنب، ما يمحو الحدود بينهما. هذا التجاور يخلق حالة من القلقالوجودي، ويدفع القارئ للتساؤل عن معنى الحياة في ظل النهاية المحتومة

ومن الاقتباس: "إذا كان لكل شيء نهاية، فمعنى ذلك أن لكل شيء بداية. لكن ما معنىأن يكون لكل شيء نهاية؟" نرى رحلة السيد جوزيه تظهر أن فهم الحياة لا يكتمل إلا إذاشملنا في حُسباننا الموت، وأن البحث عن معنى الوجود هو في الأساس بحثٌ عنالمعنى في ظل الفناء. هذه النظرة الفلسفية العميقة هي أحد أبرز سمات الأدبالساراماغوي، الذي يرى أن الحياة والموت ليسا منفصلين، بل هما جزءان من حلقةواحدة، كما في: "الزمن ليس سوى وهم، إنه مجرد حيلة لكي نتحمل فكرة أن كل شيءله بداية ونهاية".

أما على الصعيد الفني، فتتميز الرواية بأسلوب ساراماغو الفريد الذي تحدى به كلالأعراف الروائية. الجمل الطويلة المتدفقة، التي تمتد لفقرات كاملة دون توقف، هيالسمة الأبرز. كما أن الحوارات تندمج في السرد دون علامات تنصيص تقليدية، ممايجعل أصوات الشخصيات تمتزج مع صوت الراوي. هذا الأسلوب ليس عشوائياً، بل هوجزء أصيل من الرسالة الفلسفية للرواية. إنه يمثل تشابك الأفكار، وامتزاج الوعيالفردي بالوعي الجمعي، وكأنه يقول إن وجودنا ليس منفصلاً عن الآخرين. وفي ظلذلك التشابك نقتبس: "نحن لا نعرف ما الذي يحدث بداخلنا، ولكننا نعرف أننا نعيش".

يمكننا ختاماً أن نعدّ رواية كل الأسماء، تأملاً عميقاً في الحالة الإنسانية. ودعوةً للتمردعلى الرتابة واللامبالاة، والبحث عن المعنى في أكثر الأماكن قتامة. كما إنها رسالة تؤكدأن الإنسان، حتى لو كان مجرد اسم في سجل، فإنه يمتلك القدرة على تجاوز قيودالبيروقراطية، وإشعال شرارة الوجود من جديد، ليثبت أن الحياة لا تُختزل في قائمة،وأن كل اسم يحمل عالماً كاملاً يستحق الاكتشاف.