نيجيرفان بارزاني ورؤيته لإدارة أزمات العراق وقيادة صراعه في خطابه وأجوبته في ملتقى الشرق الأوسط (ميري)

باشراف وتحرير د هوشيار مظفر علي امين وبقلم: هوشيار مظفر علي امين ،،اكرم طالب الوشاح ،،قاسم محسن شفيق الخزعلي ،،طالب كاظم سوادي ،،زين العابدين العوادي :::: :::: في ملتقى الشرق الأوسط للبحوث (ميري) المنعقد في أربيل في الثامن والتاسع من أكتوبر 2025، بدا السيد نيجيرفان بارزاني وكأنه يختار لحظة استثنائية ليعيد فيها تعريف موقع إقليم كوردستان في معادلة العراق والمنطقة. لم يكن الحوار الذي خاضه مجرد عرضٍ لمواقف آنية أو دفاعٍ عن سياسات الإقليم، بل محاولة لإعادة صياغة سؤال الدولة العراقية نفسها بعد أكثر من عقدين على سقوط النظام السابق. الرجل الذي يقود الإقليم في زمن شديد التعقيد، أراد أن يتحدث بلغة تتجاوز الاصطفاف الحزبي، وأن يضع أمام الحاضرين خريطة طريق لإعادة بناء الثقة بين المكوّنات، واستعادة مفهوم الدولة كمؤسسة جامعة وليست تركة متنازعًا عليها.

أكتوبر 8, 2025 - 21:07
أكتوبر 8, 2025 - 21:09
نيجيرفان بارزاني ورؤيته لإدارة أزمات العراق وقيادة صراعه في خطابه وأجوبته في ملتقى الشرق الأوسط (ميري)
نيجيرفان بارزاني ورؤيته لإدارة أزمات العراق وقيادة صراعه في خطابه وأجوبته في ملتقى الشرق الأوسط (ميري)

فهو قال في مستهل كلمته: “بعد أكثر من عشرين عامًا على سقوط النظام السابق، بدا وكأننا نعيد صياغة سؤال العراق من جديد، ماذا تبقّى من العراق الفيدرالي الديمقراطي الذي وُعد به الجميع عام 2003؟”. في هذه الجملة المكثفة، وضع بارزاني تشخيصًا استراتيجيًا لوضع الدولة العراقية الراهن.

فمنذ عام 2003، كانت معادلة العراق قائمة على التوازن  بين المركز والأطراف، لكن تلك المعادلة لم تتحول إلى منظومة مؤسساتية. بارزاني، بصفته أحد الفاعلين الذين شاركوا في صناعة النظام الجديد، يرى أن الدستور كان “المنجز الأكبر ". هذه العبارة تختصر  ما بعد التغيير: كتابة عقد وطني .

حين تحدّث من داخل قاعة مزدحمة بصنّاع القرار والدبلوماسيين والأكاديميين، كان صوته يحمل ازدواجية بين التحذير والدعوة، بين الواقعية والإصرار على الأمل. حذّر  من تكرار أخطاء الدكتاتورية السابقة ل2003، ودعا إلى احترام توازن إقليمي هش تحاول كوردستان الحفاظ عليه هذا التوازن هو جوهر فلسفته في الحكم: إدارة الصراع لا عبر المواجهة، بل عبر شبكة توازنات دقيقة تقي الإقليم والعراق من الانزلاق إلى لعبة المحاور.

ونراه وقد قال: “لقد بذلنا كل ما في وسعنا لبناء هذا العراق الجديد”. هذه الجملة البسيطة تفتح بابًا لتحليلٍ أعمق في فكر نيجيرفان بارزاني. فهو لا يتحدث من موقع النقد الخارجي، بل من موقع الشريك المؤسس .

حين أشار إلى جهود القيادات الكوردية، من الزعيم مسعود بارزاني إلى الزعيم جلال طالباني، أراد أن يقول إن الإقليم لم يكن طارئًا على الدولة العراقية، بل أحد أعمدتها في مرحلة التأسيس الثانية بعد 2003. لكن هذه المشاركة التاريخية لم تثمر دولة مؤسسات، بل أنتجت علاقة خاصةوناجحة بين المركز والإقليم، يتناوب عليها  التوظيف السياسي.

ويصف نيجيرفان بارزاني الدستور بأنه منجز وطني كبير  بقي منجزا، ويرى أن جوهر الأزمات المزمنة بين أربيل وبغداد – من الموازنة والنفط والرواتب إلى المادة 140 وقوات البيشمركة – يعود إلى سوء الفهم  للدستور الذي صوّت عليه أكثر من 80 في المئة من العراقيين. في نظره، هذه ليست ملفات مالية أو قانونية، بل هي اختبارات يومية لفكرة الدولة العراقية نفسها.

في إحدى أكثر عباراته تأثيرًا قال: “ الكورد فيخشون الماضي والحاضر والمستقبل معًا”. بهذا التوصيف، لا يلخّص بارزاني فقط مأزق الازمة، بل يرسم خريطة ذهنية للهوية العراقية بعد عقدين من التغيير. الدولة لا يمكن أن تُبنى في ظل خوف متبادل، بل تحتاج إلى عقد جديد يعيد توزيع الطمأنينة بين المكوّنات.

وهو يرى أن استقرار البلاد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا لن يتحقق إلا عبر الالتزام الفعلي ببنود الدستور، لا بالتصريحات السياسية. هنا تبرز فلسفة نيجيرفان بارزاني في الحكم: لا استقرار من دون مؤسسات، ولا مؤسسات من دون احترام القانون، ولا قانون بلا إرادة سياسية تطبقه.

ورغم كل الخلافات، أكد أن “العمق الاستراتيجي لإقليم كوردستان هو بغداد”. لم يقلها كمجاملة، بل كقناعة جيوسياسية. فالإقليم الذي يعيش بين إيران وتركيا وسوريا، يدرك أن علاقته ببغداد ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية. هذا الإدراك العملي هو ما يميز بارزاني فهو لا يؤمن بعزلة الإقليم ولا بذوبانه، بل بشراكة متوازنة تحفظ وحدة العراق وتمنح كوردستان استقلالها الإداري والاقتصادي ضمن الإطار الفيدرالي.

عندما حذر من اختزال الديمقراطية في الانتخابات، قائلاً إنها ليست “هدية يمكن استيرادها من الخارج”، كان يعيد تعريف المفهوم في سياقٍ عراقي. الديمقراطية عنده ليست صندوق اقتراع بل ثقافة مؤسسات. ليست فعلًا موسمياً بل ممارسة دائمة تُبنى عبر العدالة والثقة. هذه المقاربة تتجاوز الخطاب الشائع الذي يقيس الديمقراطية بعدد الانتخابات لا بنوعية المؤسسات التي تفرزها.

وحين شبّه التحول في بغداد من “الانفجارات إلى الاختناقات المرورية” قال ذلك بواقعية قاسية. المشكلة لم تعد في السلاح، بل في غياب النظام المؤسسي. يحذر من “شخصنة المؤسسات” لأن ذلك في رأيه يحول الدولة إلى رهينة مزاج الأفراد. إنه تحذير من تكرار دورة السلطة الفردية التي أضعفت العراق لعقود.

وفي سياق رؤيته الإصلاحية، وصف الانتخابات المقبلة بأنها “الأهم منذ عام 2005”، ليس لأنها ستفرز أغلبية جديدة، بل لأنها تحدد ما إذا كان العراق سيسلك طريق الإصلاح أو الانسداد.

ويدعو   إلى بناء العراق وكوردستان  سويا عندما قال: “ابنِ الدولة من جديد، وحدثنا عما يمكنك أن تقدمه للجيل الجديد”. هذه الجملة تلخص خطابه كله.

هو لا يخاطب السلطة فقط، بل جيلاً كاملاً قادما. يريد أن يعيد إحياء فكرة الدولة العراقية  عبر مشروع مؤسساتي لا شعاراتي. بالنسبة له، الأمل لا يولد من الخطابات بل من العمل الإداري المنظم.

أما في السياسة الإقليمية، فبدت مواقفه محكومة بواقعية سياسية  محسوبة. فقال إن الإقليم لا يشكّل تهديدًا  وحديثه  بشأن سوريا، قال فيه إن البلاد “أمام فرصتها الأخيرة لبدء مرحلة جديدة”، داعيًا كوردها إلى التوجّه نحو دمشق والانخراط في العملية السياسية كـ“أصحاب للبيت لا ضيوف فيه”. شدد على أن الدولة السورية لا يمكن أن تُدار مركزياً في بلد متعدد المكونات، محذرًا من أن أي تدخل خارجي في الشأن الكوردي السوري “لن يقود إلى حل بل إلى مزيد من الأزمات”. هذه المقاربة تضعه في صف دعاة الحلول السياسية الداخلية، وترفض الرهان على القوة العسكرية الأجنبية

ما يميز خطاب بارزاني أنه لم يكن خطاب زعيم إقليمي ضيق الأفق، بل رؤية رجل دولة عراقي عراقي  يتحدث بلغة تتجاوز خرائط الجغرافيا. طرح مقاربة فلسفية للسلطة والمعنى السياسي في زمن الفوضى. في كل فقرة من حديثه، يظهر أنه يحاول الدفاع عن فكرة الدولة في منطقة تآكلت فيها فكرة الدولة ذاتها.

حين يقول إن “الاستقرار لا يتحقق بالشعارات أو بالماضي، بل ببناء مؤسسات قوية تحمي مستقبل العراقيين جميعًا”، فإنه لا يتحدث عن العراق فقط، بل عن الشرق الأوسط كله. إنه يعرض فلسفة حكم مضادة للانفعال الأيديولوجي: الإصلاح لا يولد من الثورة الدائمة، بل من مؤسسات تستمر بعد الأفراد.

الخطاب في جوهره كان تأملًا في الدولة لا في السلطة. كان حديثًا عن الزمن، عن علاقة الحاضر بالماضي والمستقبل. أراد أن يقول إن العراق لا يستطيع أن يعيش في ذاكرة الألم، وأن كوردستان لا يمكن أن تبقى محاصرة بين الخوف والطموح، وأن المنطقة لن تعرف السلام إلا إذا أعادت الاعتبار للعقل المؤسسي.

من زاوية فلسفية، بدا بارزاني كمن يقرأ تحولات الشرق الأوسط عبر عدسة التاريخ الطويل. هو ابن مرحلة ما بعد الدولة القومية، يدرك أن الأنظمة لم تعد قادرة على فرض وحدتها بالعنف، وأن التعددية لم تعد ترفًا بل شرط بقاء. لذلك يدعو إلى بناء دولة عراقية مرنة، قادرة على احتواء التنوع لا إلغائه.

ومن زاوية استراتيجية، طرح معادلة التوازن الإقليمي بوصفها سبيل  البقاء. فكوردستان لا تستطيع أن تعادي إيران وتركيا معًا، ولا أن تراهن كليًا على واشنطن، ولا أن تنفصل عن بغداد. التوازن بين هذه القوى هو الذي يضمن بقاءها، وهذا التوازن لا يمكن تحقيقه إلا عبر مؤسسات مستقرة.

أما من الزاوية الاستشرافية، فإن خطابه يفتح سؤال المستقبل: هل يستطيع العراق أن ينتقل من دولة الريع إلى دولة المؤسسات؟ وهل يمكن للنخبة السياسية أن تتخلى عن أنماط السلطة الموروثة؟ يرى بارزاني أن الفرصة ما زالت قائمة، لكنها تضيق مع كل انتخابات لا تنتج إصلاحًا. الانتخابات القادمة، كما قال، ليست مجرد تصويت، بل اختبار لقدرة العراقيين على إنقاذ تجربتهم الديمقراطية.

الخطاب في مجمله كان محاولة لتصحيح المسار عبر العودة إلى الفكرة الأصلية للعراق الفيدرالي الديمقراطي. بارزاني لم يتحدث عن كوردستان كإقليم فقط، بل عن العراق ككل. أراد أن يذكّر الجميع بأن العراق كله  ليس هامشًا في الجغرافيا، بل ركيزة في معادلة المنطقة. وحين يقول إن العمق الاستراتيجي لكوردستان هو بغداد، فهو يعلن إيمانه بأن مصير الطرفين متشابك: لا استقرار للإقليم دون دولة عراقية قوية، ولا مستقبل للعراق دون كوردستان مستقرة.

بهذا المعنى، يمكن القول إن خطاب نيجيرفان بارزاني في ملتقى ميري لم يكن عرضًا لموقف سياسي، بل وثيقة فكرية عراقية عراقية لإعادة تعريف معنى الدولة في العراق. رجل السلطة بدا كفيلسوف سياسي يتأمل هشاشة النظام، ويقترح العلاج عبر العودة إلى القاعدة البسيطة: المؤسسات لا الأفراد، الشراكة لا التبعية، القانون لا الشعارات

من يستمع إلى بارزاني في هذا الخطاب يدرك أن كوردستان، رغم كل الازمات، تحاول أن تقدم نموذجًا لإدارة التعدد بدل الخضوع له. وهو يرى أن الدولة لا تُبنى ضد الآخرين، بل معهم. وأن الطريق نحو المستقبل يمر عبر إصلاح العلاقة بين المركز والأطراف، وبين المواطن والدولة، وبين الداخل والجوار.

في النهاية، لم يكن نيجيرفان بارزاني في ملتقى ميري يتحدث عن الحاضر فحسب، بل عن المستقبل الذي يريد حمايته من التكرار. كان يحاول أن يضع أمام العراق سؤالًا وجوديًا: هل نريد أن نبني دولة تعيش بالقانون ؟

جوابه جاء صريحا: “لن يتحقق الاستقرار بالشعارات أو بالماضي، بل ببناء مؤسسات قوية تحمي مستقبل العراقيين جميعًا.”

بهذه الجملة، ختم نيجيرفان  خطابه، تاركًا خلفه أكثر من موقف سياسي. ترك مبدأ. مبدأ أن الدولة لا تُحكم بالعاطفة بل بالعقل، ولا تُحمى بالتاريخ بل بالمؤسسات، ولا تُبنى بالصوت العالي بل بالفعل الصامت الذي يرسّخ القانون.

إنها خلاصة مشروعه ورؤيته لإدارة أزمات العراق وقيادة صراعه، من موقع من يرى في الحكم مسؤولية، وفي الدولة فكرة تستحق أن تُعاد ولادتها كل يوم.