العراق: جمهورية بلا جوهر وفيدرالية بلا دستور

أكتوبر 17, 2025 - 21:18
أكتوبر 17, 2025 - 21:19
العراق: جمهورية بلا جوهر وفيدرالية بلا دستور

بقلم: سيروان عبدالكريم علي

بعد مرور ما يقارب سبعة عقود على إعلان الجمهورية العراقية عام 1958، لا يزال العراق عاجزاً عن أن يُصنّف ضمن الأنظمة الجمهورية الحقيقية. فقد بدأت الجمهورية العراقية بانقلاب دموي في الرابع عشر من تموز 1958، حيث اقتحم بعض الضباط بقيادة العميد عبد الكريم قاسم القصر الملكي وأعدموا الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله رميا بالرصاص، وبذلك أرست هذه البداية العنيفة نمطاً استمر لعقود: التغيير السياسي عبر العنف والانقلابات العسكرية لا عبر صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية.

ورغم كل التحديات التي واجهتها الجمهورية العراقية، كان الاعتراف بحقوق الكورد عام 1970 واعلان منطقة كوردستان للحكم الذاتي، يُعتبر تحدياً كبيراً وإنجازاً مهماً في ذلك الوقت، مما جعل العراق من بين أفضل الجمهوريات في المنطقة من حيث الاعتراف بالتنوع القومي

لأن قانون الحكم الذاتي لمنطقة كوردستان كان اعترافاً رسمياً بالحقوق الثقافية واللغوية، وهو أمر كان نادراً في دول الجوار آنذاك

لكن هذا الاعتراف ظل حبراً على ورق في كثير من الأحيان، ولم يُترجم إلى ممارسة حقيقية بسبب طبيعة النظام الاستبدادي والصراعات المتكررة بين الحكومة المركزية والحركة الكوردية.

وتكررت القصة ذاتها مع الفيدرالية بعد عام 2003، فقد أُعلن العراق رسمياً دولة فيدرالية في دستور 2005، معترفاً بإقليم كوردستان والذي كان شبه مستقلا، ومسموحاً بتشكيل أقاليم أخرى. وعلى الرغم من أن العراق أصبح أول جمهورية في المنطقة تعترف بالنظام الفيدرالي دستورياً، إلا أنه في الممارسة العملية لا يمكن وصفه لا بالجمهوري ولا بالفيدرالي لأسباب عديدة ومعقدة

فالنظام الجمهوري الحقيقي يقوم على السيادة الشعبية والحكم الدستوري والفصل بين السلطات وسيادة القانون والقيادة المدنية والاستمرارية المؤسسية، وهي مبادئ فشل العراق في تطبيقها جميعاً على مدى عقود. فمن 1958 إلى 2003، لم يشهد العراق حكماً جمهورياً شرعياً، بل تعاقبت عليه الانقلابات العسكرية والدساتير المؤقتة والانتخابات المزيفة، ولم يحكمه رئيس مدني واحد خلال هذه الفترة الطويلة.

والحقيقة أن التحدي في ممارسة الفيدرالية لا يأتي فقط من الحكومة الاتحادية أو من العرب، بل إن إقليم كوردستان أيضاً يواجه تحديات كبيرة في كيفية ممارسة الفيدرالية بشكل صحيح

فقد أوضح الرئيس نيجيرفان بارزاني في خطابه خلال منتدى الشرق الأوسط للأبحاث يوم الثامن من تشرين الأول 2025 هذه المعضلة بصراحة موضحاً سوء التفاهم المتبادل: "ذات مرة في اجتماع مع الإطار التنسيقي المكوّن من القوى الشيعية، قلت: إخواني، دعوني أكون صريحاً معكم، أنتم عندما تنظرون إلى إقليم كوردستان، ليس فقط أنكم لا ترون تصرف إقليم كوردستان كتصرف إقليم فيدرالي، بل ترون أنفسكم دولة ذات سيادة، لكننا عندما ننظر إليكم من أربيل، نرى أن تصرفكم مع إقليم كوردستان مركزي لدرجة أنه قد يكون كل شيء إلا الفيدرالية."

هذا الخطاب يكشف أن المشكلة ليست في طرف واحد فقط، بل في عدم وجود فهم مشترك لمعنى الفيدرالية وكيفية تطبيقها. فالأحزاب الكوردية أحياناً تتعامل مع الفيدرالية كخطوة نحو الاستقلال، والأحزاب الشيعية تناقش تشكيل أقاليمها لكنها تقاوم تقاسم السلطة الحقيقي على المستوى الوطني، والسياسيون السنة يتأرجحون بين المطالبة بإقليمهم ومعارضة الفيدرالية، بينما تفسر بغداد الفيدرالية على أنها سيطرة مركزية مع تنازلات إدارية محدودة. لم يتبنَّ أحد المبدأ الحقيقي للفيدرالية: السيادة المشتركة حيث تمتلك كل من الحكومة الاتحادية والإقليمية مجالات سلطة محددة ومحمية دستورياً، وتعملان بشكل تعاوني ضمن إطار من الاحترام المتبادل.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن دستور العراق لعام 2005 أصبح مصدراً للتفسيرات المتعددة والمتناقضة، وسيظل موضوعاً مثيراً للجدل في العقود القادمة. فبدلاً من معاملته كوثيقة قانونية من صنع البشر قابلة للتفسير والتعديل والتطبيق، يُعامَل كنص مقدس غير قابل للتغيير ومتنازع عليه بلا نهاية. كل مادة دستورية تولد تفسيرات متعددة، ويستشهد السياسيون بالأحكام الدستورية عندما تخدم مصالحهم ويتجاهلونها عندما لا تناسبهم. وتبقى أسئلة حاسمة معلقة دون حل: ما هي الحدود الدقيقة للسلطة الإقليمية مقابل الفيدرالية؟ كيف توزع عائدات النفط؟ ما هي صلاحيات رئيس الوزراء الفعلية؟ كيف تُحل الحكومات المعطلة؟

وبدلاً من حل هذه المسائل عبر نقاش صادق أو تعديلات دستورية أو تفسير قضائي ملزم، يفضل السياسيون العراقيون، ورغم وجود الاف من اساتذة ذوي الاختصاصات القانونية والدستورية، من جميع الأطراف الغموض المتعمد، لأن الإبقاء على القواعد غير واضحة يخدم مصالحهم الضيقة، إذ يسمح لكل فصيل بادعاء الشرعية الدستورية لمواقف متناقضة تماماً. وهذا يعني أن الدستور تحول من أداة للحكم وتنظيم العلاقات بين مكونات الدولة إلى سلاح في الصراع السياسي اليومي.

بعد أكثر من عقدين من عام 2003، يفتقر العراق إلى مؤسسات دولة فاعلة ومستقلة. فتخدم الوزارات مصالح حزبية بدلاً من المصالح العامة، وتستجيب القوات الأمنية للأحزاب السياسية والميليشيات الطائفية بقدر استجابتها للدولة، والبرلمان مشلول بسبب المقاطعات والانسحابات المتكررة. سيادة القانون غائبة تماماً، فيعمل الأقوياء بحصانة كاملة بينما يواجه المواطنون العاديون معاملة تعسفية. يشتكي الجميع - المواطنون من غياب الخدمات الأساسية والكهرباء والماء والفساد، والسياسيون من عرقلة بعضهم البعض - لكن الشكاوى لا تؤدي إلى أي تغيير حقيقي.

إن العراق اليوم يقف أمام معضلة مزدوجة: فهو لا يستطيع أن يُصنّف كجمهورية حقيقية بعد سبعة عقود من إعلان الجمهورية، ولا يمكن وصفه بالدولة الفيدرالية الفاعلة رغم مرور عقدين على الدستور الفيدرالي. ورغم أن العراق كان سباقاً في الاعتراف بحقوق الكورد عام 1970 وبالنظام الفيدرالي عام 2005، إلا أن الاعتراف الدستوري لم يتحول إلى ممارسة عملية حقيقية. والتحدي لا يقع على طرف واحد فقط، بل على جميع الأطراف - الحكومة الاتحادية وإقليم كوردستان والأحزاب السياسية كافة - التي فشلت في فهم وممارسة الفيدرالية بشكل صحيح

وما لم تتغير هذه الثقافة السياسية وتتبنى النخب العراقية حقاً مبادئ الجمهورية والفيدرالية بجوهرها لا بمظهرها، سيظل دستور العراق موضوعاً مثيراً للجدل والتفسيرات المتناقضة في العقود القادمة، وسيبقى العراق معلقاً بين الوهم والواقع.