جسر بين اللغات والذكريات: ترجمة كتاب "كوردستان حبيبتي"

أكتوبر 26, 2025 - 13:36
أكتوبر 26, 2025 - 14:44
جسر بين اللغات والذكريات: ترجمة كتاب "كوردستان حبيبتي"

بقلم: د. سيروان عبد الكريم علي

تحت اشراف وتمويل مؤسسة فيجن إجوكيشن Vision Education Foundation في أربيل، ممثلةً بالسيد روند عبد القادر درويش، أنجز فريقنا واحدًا من أعمق المشاريع الثقافية والإنسانية في السنوات الأخيرة؛ والمتمثل في ترجمة كتاب المصوّر والكاتب الفرنسي لام دوك هيان "Kurdistan mon ami" من اللغة الفرنسية إلى الإنكليزية بعنوان "My Beloved Kurdistan" وإلى العربية بعنوان "أرض الرّمان".

تم إنجاز المشروع في زمنٍ قياسي وبدقةٍ أسلوبية ولغوية عالية، حازت على إشادة المؤلف نفسه الذي قال: "لقد ترجم الفريق روح الكتاب لا كلماته فحسب". ضمّ فريق الترجمة كلاً من الأستاذ مايكل ج. فيليبس مترجم النسخة الإنكليزية، والآنسة زهراء كوسرت ظاهر محرّرة اللغة العربية التي أشرفت على المراجعة النهائية للنص العربي بعنايةٍ لغوية وجمالية فائقة.

نُفِّذ هذا المشروع الدولي بدعمٍ من مؤسسة فيجن إجوكيشن في أربيل، وبالشراكة مع عددٍ من المؤسسات الثقافية الفرنسية، وبالتعاون الوثيق مع فريق التأليف الذي ضمَّ كلاً من المصوّر لام دوك هيان، والكاتب ليزلي ليبرس، والصحفية والمخرجة الوثائقية ومترجمة النسخة التشيكية من الكتاب ماكدالينا سودومكوفا.  تجاوز دور ماكدالينا حدود الترجمة اللغوية؛ إذ عملت مع هيان ميدانيًا في توثيق التجارب والقصص، ومراجعة الحقائق التاريخية، وضمان الحفاظ على البعد الإنساني والعاطفي للنصوص عبر اللغات والثقافات. وقد ساهمت خبرتها الإعلامية في صياغة المشروع البصري ليصبح شهادةً إنسانية توثق ثلاثة عقود من تاريخ شعب كوردستان العراق.

صدر كتاب «كوردستان حبيبتي» عام 2024 بعد حملة دعمٍ على منصة Ulule الفرنسية، بوصفه مشروعًا فنيًا وإنسانيًا لتجميع صور وأصوات من أكثر من ثلاثين عامًا من تاريخ كوردستان الحديث. الكتاب ليس مجرد مجموعة صور فوتوغرافية، بل هو سجلّ بصري للمعاناة والصمود والكرامة.

وثّق لام دوك هيان، الذي وصل إلى كوردستان عام 1991 أثناء النزوح الجماعي بعد الانتفاضة، قرى الأنفال المدمّرة، ومعسكرات اللاجئين في زاخو ودهوك، والمدارس الريفية، ومعارك البيشمركة ضد الإرهاب. عبر عدسته، لا نرى الدمار فقط، بل نرى الإصرار والرحمة والإنسان الكوردي وهو ينهض من تحت الرماد.

وُلد لام دوك هيان عام 1966 في لاوس، وعاش طفولته في ظل الحرب والنزوح. لجأت عائلته إلى تايلاند ثم إلى فرنسا. وعندما وصل إلى كوردستان عام 1991، رأى في معاناة الكورد انعكاس طفولته في المنفى. كتب يقول: "بين اللاجئين الكورد المتعبين رأيت وجه أمي يوم هروبنا من لاوس". ذلك الشعور المشترك بالمنفى هو ما جعله يصوّر كوردستان لا كغريب، بل كواحدٍ من أبنائها، يفهم ثمن النجاة وصمت الألم.

وخلال عملي على الترجمة، لم أستطع الفصل بين قصة هيان وذاكرتي الشخصية. "تذكّرتُ أمي التي نسيت ألمها — وجع ركبتيها وظهرها ورأسها — وهي تحاول إنقاذنا مع أسرة خالي، تسير نحو الحدود الإيرانية بحثاً عن الأمان. لم تكن تفكر بنفسها، بل بنا. في تلك اللحظات تلاشى وجعها أمام قوة الأمومة وغريزة البقاء."

عبرت حياة هذا الكتاب لغاتٍ وثقافاتٍ عدّة: كُتب بالفرنسية، تُرجم إلى الكوردية بقلم بيان سليم، وإلى التشيكية على يد ماكدالينا سودومكوفا، ثم إلى الإنكليزية والعربية على يد فريقنا. لكل لغة نغمتها الخاصة: الفرنسية بشاعريتها، الكوردية بقربها من الأرض، الإنكليزية بوضوحها، والعربية بدفئها وإيقاعها التاريخي.

قال المؤلف لام دوك هيان عن تجربة الترجمة: "لقد منح د. سيروان وفريقه كتابي حياة جديدة بلغتين، نقلوا مشاعره بصدقٍ وجمال". من أكثر أجزاء الكتاب تأثيراً تلك التي توثق جهود منظمة إكيليبر (ÉquiLibre) الفرنسية الإنسانية، التي وقفت إلى جانب الشعب الكوردي في أحلك سنواته. ففي بداية التسعينات قدّمت المنظمة وجباتٍ ساخنة يومياً لتلاميذ المدارس في القرى النائية، وحصصاً شهرية من المواد الغذائية الجافة للتدريسيين والموظفين في المدارس، لضمان استمرار التعليم رغم الظروف الاقتصادية الصعبة. وبصفتي كنتُ أدرّس متطوعًا في تلك السنوات في ناحية تكية كاكه‌ماند قرب جمجمال، أدركت أن هذا الدعم لم يكن مساعدة مادية فحسب، بل رسالة إنسانية تحمل معنى الاستمرار والكرامة، وتؤكد أن المعرفة لا تموت حتى في زمن الأزمات.

يحتفي الكتاب بتنوّع الديانات والثقافات في كوردستان؛ فيظهر المسلمون والمسيحيون والإيزيديون والكاكائيون والزرادشتيون والمندائيون واليهود في مشاهد تبرز وحدة الوجود الإنساني رغم اختلاف العقائد. في إحدى الصور المؤثرة، يجلس إمام مسجد وكاهن مسيحي وكاهنة إيزيدية في حوار عن الإيمان والمغفرة. تلك الصورة تختصر معنى التسامح الكوردي وتعبّر عن روح المنطقة التي كانت دائماً أرض التعايش. 

وقد كانت ترجمة هذا الجزء إلى العربية والإنكليزية تحدياً ثقافياً وجمالياً، سعينا فيه إلى الحفاظ على عالمية المعنى مع إبراز الجوهر الكوردي القائم على الإنسانية والاحترام. يُبرز الكتاب التعليم كرمزٍ للمقاومة والاستمرار. تظهر في صوره فصولٌ مهدّمة فيها أطفال يدرسون، ومعلمون يعملون رغم الفقر والحرب. لقد رأيت في تلك الصور ذات المشهد الذي عشته شاباً متطوعاً في المدارس في مطلع التسعينيات. فالتعليم لم يكن رفاهية، بل وسيلة للبقاء واستعادة الهوية. حين اكتمل العمل، أدركت أن المشروع لم يكن مجرد جهدٍ لغوي، بل فعل وفاءٍ للذاكرة. أصبح هذا الكتاب جسراً ثقافياً يربط قصص الشعب الكوردي بقلوب القراء في العالم. وفي حفل إطلاق النسخة العربية والإنكليزية، قال لام دوك هيان: "نادراً ما رأيت فريق ترجمة بهذه الدقة والتعاطف. لم يفهموا كلماتي فحسب، بل عاشوها."

"كوردستان حبيبتي" ليس كتاب صور فحسب، بل شهادة حبّ ووفاء، يذكّرنا بأن التاريخ الحقيقي لا يكتبه الساسة، بل أولئك الذين يتذكّرون: المعلمون، المترجمون، المصورون، والأطفال. بالنسبة إليّ، كانت ترجمة هذا الكتاب عودة إلى الصفوف الباردة في شبابي، إلى شجاعة طلابي، معانتهم مقاومة الامهات مع الجوع والفقر والجهالة، وإلى الإيمان بأن الذاكرة نفسها مقاومة. في عالمٍ تمزّقه الحدود واللغات، يقف هذا الكتاب جسراً من نور يربط المنفى بالوطن، والألم بالفخر، والإنسان بالإنسان.

يتقدّم فريق الترجمة بالشكر والتقدير إلى مؤسسة فيجن إجوكيشن ورئيسها د. دانا خضر مولود، ولام دوك هيان على ثقته ورؤيته الإنسانية، والآنسة بيان سليم، مترجمة النسخة الكوردية، والآنسة ماكدالينا سودومكوفا، مترجمة النسخة التشيكية ومساهمة التوثيق الميداني، ومنظمة إكيليبر (ÉquiLibre) الفرنسية، لدعمها الإنساني والتربوي في تسعينيات القرن الماضي من خلال توفير الوجبات الساخنة للتلاميذ والحصص الشهرية من المواد الغذائية للمعلمين، في مبادرةٍ تبقى رمزًا للتضامن الإنساني وقوة التعليم.