تقييم الفيدرالية الفاشلة في العراق... فيدرالية بالاسم فقط
كتاب من تأليف الدكتور هيمن آكريي في أيلول/سبتمبر 2024، أصدرت دار النشر البريطانية العريقة "راوتليدج" كتاباً للدكتور هيمن آكريي، مؤلفاً من 222 صفحة، مُقسماً إلى تسعة فصول شاملة. يتجاوز هذا المؤلَّف حدود الدراسة النظرية التقليدية، ليشكل استكشافاً معمقاً للواقع العراقي المعاصر. استطاع المؤلف في هذا الكتاب أن يجمع بمهارة أكثر من 26 مقابلة حصرية أجراها مع قيادات عراقية من مختلف المكونات– الكورد والعرب (من الشيعة والسنة) والتركمان – إضافة إلى شهادات قيّمة من دبلوماسيين وخبراء دوليين. وقد أثرى هذا الجهد الميداني الاستثنائي بمراجعة أكثر من 400 مصدر أكاديمي ورسمي، مما مكّنه من تقديم رؤية شاملة للتجربة الفيدرالية العراقية وتشابكاتها المعقدة. يُعد هذا العمل إثراءً حقيقياً للمكتبة السياسية المعاصرة، وتتويجاً لمسيرة بحثية ثرية للدكتور هيمن آكريي، الأستاذ المحاضر في قسم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة كوردستان – هولير، والمتخصص في الفيدرالية، والخبير في السياسة الخارجية وقضايا النفط والأمن والسياسة العامة والحوكمة.
ويجدر بالذكر إسهاماته البحثية البارزة، ومنها مشاركته في تأليف فصل بعنوان "مفارقة الفيدرالية والفيدرالية العراقية"، الذي نشرته دار راوتليدج عام 2018، ليعكس جزءاً مهماً من مساره الأكاديمي المتميز. يتميز المؤلف بقدرته على تبسيط المفاهيم السياسية المعقدة لتصبح في متناول القارئ العام، مع تقديم تحليل معمق يلبي احتياجات الباحثين المتخصصين وأصحاب القرار السياسي.
وفي كتابه "تقييم الفيدرالية الفاشلة في العراق" ينجح في الجمع بين صرامة التحليل الأكاديمي وثراء البُعد العملي المستمد من شهادات حيّة من صُنّاع القرار أنفسهم. وتأتي مساهمات نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان ورئيس الوزراء السابق لحكومة الإقليم، لتُضفي على العمل شهادات حيّة ذات قيمة استثنائية حول إفشال التطبيق الفعلي للنظام الفيدرالي. فخبرته كرئيس وزراء سابق ثم رئيساً لإقليم كوردستان توفر رؤى فريدة حول التداعيات العملية لانتهاكات النصوص الدستورية.
يبرز دور الرئيس نيجيرفان بارزاني عبر صفحات الكتاب كشاهد أساسي على التحديات التي واجهها إقليم كوردستان، خلال الحقبة الحرجة الممتدة من 2005 إلى 2017، مقدماً رؤى بالغة الأهمية من منظور قائد عايش هذه الأحداث عن كثب. ومن أبرز إسهاماته تلك المتصلة بأزمة الميزانية، حيث كشف الستار عن كيفية توظيف بغداد للضغط الاقتصادي كأداة سياسية، لافتاً إلى أنه حتى في البلدان ذات الأنظمة المركزية تحرص الحكومات المركزية على إرسال الميزانيات إلى أقاليمها بصورة منتظمة. وبذلك يرسخ الكتاب مكانته كمرجع أساسي لا غنى عنه لكل من يسعى إلى فهم طبيعة العلاقات الكوردية مع الحكومات العراقية المتعاقبة في بغداد، وآليات إدارة النزاعات القومية، والتحديات المتشابكة التي يواجهها النظام الفيدرالي في العراق، فضلاً عن الرؤى والتطلعات المستقبلية التي يرسمها للبلاد.
إن تجربة فشل النظام الفيدرالي العراقي التي يوثقها هذا العمل تقدم دروساً بالغة الأهمية حول تحديات بناء أنظمة حكم شاملة في المجتمعات متعددة الأعراق، مما يجعله مساهمة قيّمة في فهم ديناميكيات الحوكمة في البيئات المتنوعة ثقافياً وعرقياً. يتناول الدكتور هيمن آكريي بالتحليل تطور العلاقات الفيدرالية في العراق منذ إقرار الدستور الفيدرالي الجديد عام 2005 وحتى استفتاء استقلال كوردستان عام 2017. مسلطاً الضوء على كيفية نظر الأحزاب المختلفة في العراق إلى الفيدرالية من زوايا متباينة، وكيف أن هذا التباين في الرؤى أفضى إلى مشكلات جوهرية.
بالنسبة لشعب كوردستان، ومن المنظور الكوردستاني، مثّلت الفيدرالية درعاً واقياً من الاستبداد، بعد أن كابد معاناة قاسية تحت الحكومات العراقية المتعاقبة، بما في ذلك الحملات الإبادية في عهد النظام السابق. ويوضح الرئيس نيجيرفان بارزاني هذا المفهوم بقوله: "الفيدرالية بالنسبة لنا تعني أمرين: أولهما، المشاركة الفعلية في مؤسسات الدولة، شاملة المؤسسات المالية والعسكرية والسياسية. وثانيهما، توزيع السلطة وفقاً للجغرافيا، وهذا هو جوهر الفيدرالية الحقيقي."
في المقابل، كشف كثير من القادة السياسيين العرب عن نظرة مغايرة للفيدرالية، إذ اعتبرها البعض مساراً محفوفاً بالمخاطر قد يفضي إلى تفكك العراق. كانت مخاوفهم تتركز حول أن منح سلطات واسعة للأقاليم سيؤول في نهاية المطاف إلى الانفصال وتقويض الوحدة العراقية. كان للأحزاب السياسية الشيعية رؤى معقدة حول الفيدرالية. ففي مرحلة ما قبل 2003، عندما كانت خارج دوائر السلطة، أيدت الأحزاب الشيعية الرئيسة النظام الفيدرالي. لكن بمجرد هيمنتها على الحكومة في بغداد بعد 2005، تراجع حماسها لتقاسم السلطة بشكل ملحوظ. يقدم المؤلف شرحاً واضحاً للنظام الفيدرالي المختل في الفصل الثاني من كتابه، موضحاً أن الفيدرالية في البلدان متعددة القوميات، إذا طُبقت بالشكل الصحيح، يمكنها تعزيز الديمقراطية، أما إذا تعثرت وحُرمت الأقاليم من ممارسة صلاحيات الحكم الذاتي، فإن النظام سينهار.
من جهة أخرى، يناقش الدكتور هيمن آكريي الأنظمة الفيدرالية الفعّالة، مشيراً إلى أن العديد من المختصين في الدراسات الفيدرالية يشيرون إلى الأمثلة الناجحة مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، التي تتمتع بالديمقراطية والنمو مع "الحفاظ على مستوى من الحكم الذاتي الإقليمي".
رغم التحديات، يمكن لوجود المؤسسات الديمقراطية في الدول الفيدرالية أن يكون دائماً عاملاً لنجاح النظام. نظراً لتعقيد النظام الفيدرالي في العراق ونتيجة للأزمات المتصاعدة بين الحكومة العراقية في بغداد وحكومة إقليم كوردستان، طُرحت مجموعة متنوعة من الأفكار والمقترحات من قبل السياسيين العراقيين العرب والكورد لحل القضايا المعلقة، بما في ذلك فكرة الكونفيدرالية التي يقدم الدكتور هيمن آكريي حجة واضحة لصالحها. فإن فشل النظام الفيدرالي في التطبيق الصحيح سيؤدي حتماً إلى ظهور كيان سياسي جديد، إما على شكل دولة مستقلة أو نظام كونفيدرالي. ويبرز الفصل الخامس من الكتاب أن الهدف الأساسي من صياغة الدستور بعد عام 2003 كان إنهاء الديكتاتورية والحكم المركزي المتصلب في بغداد، وإرساء نظام سياسي جديد يضمن تقاسم السلطة والإيرادات من خلال النظام الفيدرالي. وقد صيغ الدستور في فترة حظي فيها بدعم جميع الأحزاب الشيعية والكوردية التي حرصت على إقراره بسرعة لتمكين انتخاب برلمان وحكومة جديدين في حقبة ما بعد صدام. أقرّ الدستور بالوضع الخاص لكوردستان فأسس نظام فيدرالي منح فيه حكومة الإقليم صلاحيات واسعة في الحكم الذاتي على محافظات دهوك وأربيل والسليمانية.
غير أنه بعد وصول الأغلبية الشيعية إلى السلطة في بغداد، سعت تدريجياً إلى تركيز السلطات في بغداد وانتهكت الأسس الفيدرالية للحكم. والمفارقة أن الشيعة الذين عانوا سابقاً من الحكم السني الاستبدادي في بغداد لنحو ثمانية عقود، بدوا عازمين على تكرار النهج نفسه بعد توليهم مقاليد السلطة. وعندما أحكمت السلطات العراقية، التي تهيمن عليها الأغلبية الشيعية، سيطرتها في بغداد، أدركت أن إقليم كوردستان يستثمر الدستور والوضع الفيدرالي لتطوير الإقليم، فبدأت تنظر إلى حكومة كوردستان بعين الريبة والخوف من احتمال الانفصال. لذلك، لم تسمح الحكومة العراقية بتنفيذ الدستور كما كان ينبغي. في عام 2017، وبعد مرور نحو اثني عشر عاماً على إقرار الدستور، أشارت حكومة إقليم كوردستان والباحثون والمراقبون إلى أن الحكومة الاتحادية في بغداد قد انتهكت 55 مادة من أصل 144 مادة دستورية.
شملت هذه الانتهاكات مواد أساسية، كتلك المتعلقة بحل قضايا المناطق المتنازع عليها، وإنشاء مجلس الاتحاد، وسن قانون النفط والغاز. لقد تعثرت خطوات تحويل العراق إلى دولة فيدرالية فعّالة خلال فترتي ولاية رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. فقد حُرمت مجالس المحافظات في ديالى وصلاح الدين والأنبار ذات الأغلبية السنية من حقها الدستوري في تشكيل أقاليمها الخاصة. كما اتهمت بغداد بدورها حكومة إقليم كوردستان بانتهاك مواد من الدستور. من القضايا التي تعترف القيادة الكوردية بمسؤوليتها عنها غياب الدستور الإقليمي لكوردستان. غير أنه لو التزمت الحكومة الاتحادية بتطبيق الدستور نصاً وروحاً، لما تمكنت حكومة الإقليم من انتهاك أي مادة دستورية. لاحقاً، تصاعدت المطالبات بتعديل الدستور لإعادة النظام المركزي إلى العراق، إذ أن النخب الشيعية الحاكمة في بغداد لم تؤمن أساساً بالمبادئ الفيدرالية، وهو السبب الأساسي وراء إعاقة تطبيق المشروع الفيدرالي. أفضى هذا الواقع إلى نشوء ممارسة كونفيدرالية فعلية في قطاعات حيوية، لا سيما النفط والعلاقات الخارجية والأمن في الإقليم. هكذا، كانت أربيل وبغداد تتحركان في اتجاهين متعاكسين حيث بذل الكورد جهدهم لحماية مكتسباتهم الفيدرالية المكفولة دستورياً، فيما عملت السلطات العراقية على العودة إلى النهج المركزي. يؤكد المؤلف أن الكورد والعرب العراقيين تباينوا تاريخياً في رؤيتهم للحكم الذاتي والفيدرالية. رأى الكورد في الفيدرالية ضمانة تحول دون عودة الاستبداد في بغداد، في حين اعتبرها العرب العراقيون وسيلة قد يلجأ إليها الكورد لتحقيق الانفصال. وبذلك لم تؤدِّ الفيدرالية الدور الذي أُريد لها. أما فيما يتعلق بالمادة 140 المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها والتي تشمل مدينة كركوك الغنية بالنفط ومناطق أخرى خارج إدارة الإقليم، فقد كان لدى السلطات العراقية دائماً مخاوف حول تداعياتها. كانت قضية كركوك شائكة دائماً، وحتى في عهد ما بعد صدام، امتنعت بغداد عن تنفيذ المادة 140 التي كان من المفترض أن تحسم هذه الإشكاليات عبر آلية تحدد أي المناطق تنتمي إلى إقليم كوردستان. تعاملت الحكومة المركزية مع هذه المادة الدستورية بحذر شديد، خشية أن تمهد الطريق للانفصال. من المنظور الكوردي، يتوجب أن يضم الإقليم كافة المناطق ذات الأغلبية الكوردية لضمان حماية سكانها، لاسيما بعد ما تعرضت له هذه المناطق من حملات تهجير وتعريب ممنهجة نفذتها الأنظمة العراقية المتعاقبة. بعد حوالي عشر سنوات من صدور الدستور الجديد، تقدم مجلس محافظة كركوك بطلب رسمي إلى بغداد لتهيئة الظروف اللازمة لإجراء استفتاء حول المصير المستقبلي للمحافظة، لكن تم رفض الطلب. لاحقاً في 2017، اتخذت الأحزاب الكوردية الرئيسية، بما فيها الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني، قراراً بإدراج كركوك ضمن استفتاء استقلال كوردستان. صوتت الأغلبية في محافظة كركوك لصالح الاستقلال، إلا أن الحكومة الشيعية في بغداد اعتبرت هذه الخطوة انفصالاً غير قانوني واستخدمت القوة العسكرية للرد عليها. يرى المؤلف أنه لإيجاد حل عملي لتنفيذ المادة 140 وتبديد مخاوف القيادات العربية، ينبغي على الكورد تبني نهج أكثر براغماتية وتقديم بعض التنازلات المعينة. في الفصل السادس، يوضح المؤلف أصول الفيدرالية في العراق وإقليم كوردستان، مؤكداً صعوبة استنساخ النماذج الفيدرالية الأوروبية وتطبيقها في العراق، نظراً لخصوصية كل بلد والظروف الاستثنائية التي يمر بها. فقد طرح الكورد مبدأ الفيدرالية ولقي دعماً من بعض القوى الشيعية، وبخاصة أحزاب المعارضة الشيعية قبل عام 2003، غير أن بغداد عرقلت تطبيقه عملياً. وفي هذا السياق، أكدت القيادة الكوردية باستمرار أنه في حال عدم التزام العراق الجديد بالفيدرالية، فلن يتمكن إقليم كوردستان من البقاء جزءاً منه، لأن حماية حقوقهم ستبقى مستحيلة. ينبغي أن يُصمَّم النظام الفيدرالي بما يتوافق مع خصوصيات البلد، حيث يشكّل الكورد عنصرًا أساسيًا فيه نظراً لما عانوه من حملات إبادة في عهد صدام حسين. ورغم التباين في الرؤى بين الجانبين الكوردي والعربي حول مفهوم الفيدرالية، وبعد مرور سنوات طويلة على إقرار الدستور، بات بعض القادة العراقيين يعتبرون الوضع الفيدرالي لإقليم كوردستان أمرًا واقعًا، في حين ما زال آخرون يرفضون الاعتراف به، وهو وضع لم تحترمه السلطات في بغداد خلال الفترة الممتدة بين 2005 و2017. وبذلك، ما دام المشروع الفيدرالي لم يُطبّق على مستوى العراق ككل، ولم يحصل السنة والشيعة على صيغتهم الفيدرالية الخاصة، ستظل الفيدرالية عاجزةعن أداء وظيفتها. كما أن عدم تبني الفيدرالية في أجزاء أخرى من العراق سيضر أيضاً بالوضع الفيدرالي لإقليم كوردستان. في الخلاصة، يتناول المؤلف جذور الفكر الفيدرالي في العراق وبنية الحكم الفيدرالي في إقليم كوردستان، مع تحليل العقبات التي تعترض تفعيله الكامل. يسلط المؤلف الضوء أيضاً على استمرار انعدام الثقة بين الكورد والحكومات المتعاقبة في بغداد، حيث لم تثق القيادة الكوردية بالنظام السابق، لا سيما بعد أن أخلت بغداد بالتزاماتها تجاه اتفاقية الحكم الذاتي الموقعة في آذار 1970، والتي كانت تنص على منح الكورد حقوقهم المشروعة. امتد هذا السلوك إلى المراحل اللاحقة، حيث رغم إقرار المبدأ الفيدرالي دستورياً، امتنعت الحكومة المركزية عن الشراكة الفعلية في إدارة السلطة وتوزيع الموارد، بل سعت بإصرار لتقييد صلاحيات الإقليم. يقرّ بعض المحللين العرب العراقيين بأن ثقافة المركزية متجذرة تاريخياً في العراق، وأنه حتى عندما مُنحت صلاحيات للمحافظات في إطار اللامركزية، قامت السلطات في بغداد بتقويضها.
يرى القادة الكورد أن القيادات العربية العراقية لم تستوعب جوهر المفهوم الفيدرالي، إذ إن النخب والأحزاب ذاتها التي صادقت على إقرارها في الدستور هي التي تمسكت لاحقًا بإدارة الحكم المركزي في بغداد. عندما وافقت الأحزاب الشيعية الرئيسة على الفيدرالية في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام، كانت غير متيقنة من قدرتها على إقصاء السنة من السلطة والانفراد بالحكم. لكن بمجرد أن ترسّخت هيمنتها وعزّزت قبضتها على مقاليد الحكم، تراجعت عن التزامها بالفيدرالية وعرقلت آلياتها، متجهة بدلاً من ذلك نحو الحكم المركزي الاستبدادي. بموجب الدستور، يمكن للمحافظات الأخرى تشكيل أقاليمها الخاصة، إلا أن الحكومة في بغداد عرقلت هذه المساعي، ولم تُبد أي جدية أو رغبة حقيقية في تطبيق الفيدرالية. كان بإمكان العراق أن يحقق نظاماً فيدرالياً أكثر فعالية لو تألف من إقليمين فيدراليين، خاصة وأن الفيدرالية الحقيقية تستدعي وجود إقليمين كحد أدنى ومجلسين - مجلس النواب ومجلس الاتحاد. وبالتالي، تقع على عاتق السلطات العراقية في بغداد مسؤولية منع تأسيس المجلس الاتحادي. أما في الفصل السابع، المعنون بـ "الفيدرالية المالية"، يشير المؤلف إلى أنه لو كان هناك قانون ينظم شؤون النفط والغاز، لما نشب الخلاف بين أربيل وبغداد. كما يرى أن وجود نظام فيدرالي فعّال في العراق كان من شأنه أن يحول دون إقدام الحكومة الاتحادية عام 2014 على قطع حصة إقليم كوردستان المضمونة دستورياً. ففي ذلك الوقت، لم يُعامل الإقليم كما يُعامل أي إقليم أو محافظة ضمن دولة مركزية، إذ أن الدول المركزية الأكثر صرامة ترسل موازناتها إلى محافظاتها بانتظام. وقد اعتُبر ذلك الإجراء "أقسى ضربة وُجهت إلى النظام الفيدرالي في العراق، وأسهم بشكل كبير في دفع النزعة نحو الاستقلال، لأنه أوجد تفاوتات اقتصادية ومظالم عميقة".
في خلاصة الفصل السابع، يوضح المؤلف التحديات التي واجهت تفعيل الفيدرالية المالية في العراق. فبعد أن وصلت مفاوضات حكومة إقليم كوردستان مع بغداد بشأن إطلاق ميزانيتها إلى طريق مسدود، لجأت في نهاية أيار/مايو 2014 إلى تصدير النفط بشكل مستقل. ولولا هذا الخيار لكانت حكومة الإقليم مهددة بالانهيار التام، خاصة مع تزامن اجتياح تنظيم داعش في حزيران/يونيو 2014، والانخفاض المفاجئ في أسعار النفط، فضلاً عن تدفق ما يقارب مليوني نازح ولاجئ عراقي وسوري إلى الإقليم طلباً للمأوى.
وتشير جميع البيانات والمعطيات المتاحة إلى أن الكورد سعوا منذ البداية إلى لامركزية قطاع النفط على مستوى العراق بأكمله، وهو ما كان من شأنه أن يخدم أيضاً مدينة البصرة في الجنوب، التي تُعد المنتج الأكبر للنفط العراقي. غير أن موقف الكورد لم يقتصر على الحسابات الاقتصادية؛ فقد كان هناك بُعد سياسي وأمني يتمثل في خشيتهم من تكرار تجربة الماضي تحت حكم صدام حسين، حين استخدم عائدات النفط لشراء الأسلحة التي وُجّهت ضدهم. وعليه، فإن الفيدرالية من منظور الكورد تمثل آلية لتقاسم السلطة والموارد، وقد طُرحت أساساً لتجنب عودة الدكتاتورية والمركزية في عراق ما بعد صدام.
لكن السلطات العربية العراقية نظرت إليها بوصفها وسيلة قد يستخدمها الكورد للانفصال، وسعت إلى تقويض المبادئ اللامركزية التي نص عليها الدستور. يشير الفصل الثامن، المعنون بـ "التحديات الأمنية للفيدرالية وتهديدات الانفصال"، إلى أن التجربة الفيدرالية في العراق واجهت ضغوطاً عميقة نتيجة تداخل ثلاثة عوامل رئيسية. فقد تسببت موجات العنف والتمرد، وما تلاها من ظهور تنظيم داعش، في إضعاف ركائز الفيدرالية وتقويض استقرارها، الأمر الذي دفع إقليم كوردستان في نهاية المطاف على المضي نحو خيار الاستفتاء.
كما أن الحرب الطائفية والتمرد المزمن، إلى جانب اختلالات الحوكمة بعد عام 2003، أفضت إلى تآكل شرعية النظام السياسي وإضعاف قدرته على إدارة التعددية. وانعكست الانقسامات الطائفية في الشارع على طبيعة الممارسات السياسية داخل مؤسسات الدولة، حيث تحولت إلى صراعات ومناكفات داخل الحكومة والبرلمان، مما أنتج بيئة سياسية غير مستقرة حالت دون تفعيل المشروع الفيدرالي وتحقيق أهدافه. إعادة بناء العراق بعد عام 2003 لم تنطلق من أسس راسخة، بل ارتبطت بالعنف والتمرد والحرب الطائفية وسوء الحوكمة. في المقابل، كان إقليم كوردستان، باعتباره إقليماً فيدرالياً يتمتع بخصائص الدولة شبه المستقلة حتى قبل 2003، يعيش أوضاعاً مغايرة نسبياً؛ فرغم بعض أوجه القصور والمشكلات، شهد الإقليم قدراً من الأمن والاستقرار وحقق نمواً وتقدماً في مختلف القطاعات. وبذلك فإن الأزمات التي عصفت ببقية العراق، من سوء الحكم والحرب الطائفية إلى انسحاب الولايات المتحدة وصعود نفوذ الميليشيات، أسهمت مجتمعة في تقويض احترام الدستور وإضعاف النظام الفيدرالي، الأمر الذي دفع إقليم كوردستان نحو خيار الاستقلال. الملاحظات الختامية يتبين من هذا الكتاب، للدكتور هيمن آكريي، أن العراق طوال الفترة الممتدة من 2005 حتى2017 لم يتحول إلى نظام فيدرالي حقيقي، إذ ظلت السلطات في بغداد متمسكة بالمركزية ولم تؤمن فعلياً بالفيدرالية. فالنظام الفيدرالي الفعال يحتاج إلى فاعلين مؤمنين به، وهو ما افتقر إليه العراق، لتبقى الفيدرالية فيه اسماً بلا مضمون. أما كوردستان فقد استفادت من الفيدرالية للحصول على موارد سياسية وبناء مؤسسات من شكل الدولة لكن ذلك لم يكن الدافع الرئيس وراء النزعة الاستقلالية؛ بل إن غياب التطبيق السليم للدستور، وعدم تقاسم السلطة والإيرادات، ساهم في دفع الكورد نحو الاستقلال. كما أن الوضع العام في العراق، المتمثل في سوء الحوكمة وعدم الاستقرار وصعود الجماعات المسلحة، زاد من اتساع الفجوة بين أربيل وبغداد. وإذا كانت الفصائل السياسية الشيعية والسنية حريصة على بقاء العراق مستقراً وموحداً، فيجب عليها أولاً إعادة تعريف الفيدرالية بما يتوافق مع نصوص الدستور وتطبيقها في جميع أنحاء البلاد. وبناءً على التجربة السابقة بين عامي 2005 و2017، ينبغي منح الكورد وضعاً فيدرالياً غير متماثل أي وضع فيدرالي يتمتع بقدر أكبر من السلطات. وفي الوقت ذاته، يتطلب النظام الفيدرالي الفعال وجود إقليمين فيدراليين على الأقل، إضافة إلى مجلسين هما مجلس النواب ومجلس الاتحاد، وهذا الأخير ما زال غائباً في العراق. كما يتوجب على الحكومة العراقية وحكومة إقليم كوردستان احترام وتطبيق الدستور وتعديله بالإجماع. وفي حال عدم تحقق ذلك، فلا بد من تنظيم العلاقات بين أربيل وبغداد على أساس كونفيدرالي، وإلا فإن العراق سيظل غير مستقر، وسيواصل إقليم كوردستان، على الأقل في المدى القريب، ممارسة الكونفيدرالية الفعلية أو وضع الدولة شبه المستقلة ضمن حدوده الحالية، كما كان عليه الحال في مرحلة ما قبل 2003.