رواية "الثعبان والزنبقة" لنيكوس كازنتزاكيس: رحلة الوعي في متاهات الوجود فلسفات روائية- بنى سردية

خاص لموقع hiwar/ أحمد العتبي:تُعد رواية "الثعبان والزنبقة" الصادرة عام (1906) لمؤلفها الكاتب والفيلسوف اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، نصاً فريداً ضمن بواكير كتابات الرجل، يتجاوز التعريف التقليدي للرواية. إنها ليست مجرد قصةٍ ذات حبكةٍ وشخصياتٍ بالمعنى المألوف، بل هي بالأحرى رحلةٌ تأملية عميقة، مقالٌ فلسفي مطول، أو (تمارين روحية) كما يصفها كازنتزاكيس نفسه، تتشابك فيها الفلسفة بالبنية السردية لتخلقَ تجربةَ قراءةٍ مكثفةٍ تدعو القارئ للانخراطِ في صراعِ المؤلف الوجوديّ.

يوليو 4, 2025 - 21:24
رواية "الثعبان والزنبقة" لنيكوس كازنتزاكيس: رحلة الوعي في متاهات الوجود فلسفات روائية- بنى سردية

البنية السردية: رحلة الوعي المتصاعدة

على عكس الروايات التقليدية ذات السرد الخطّي أو المتعدد، تتميز بنية الثعبانوالزنبقة بكونها بنيةَ (وعي) أو (وعظ) متصاعدة. لا يوجد هنا شخصياتٌ متعددةٌ أوحواراتٌ درامية، بل هو صوت واحدصوت المؤلف نفسهيخاطب القارئ مباشرةً،يرشده عبر مراحل مختلفة من الاستكشاف الفلسفي.

يمكن تقسيم هذه البنية إلى خمسة (تمارين) أو (درجات) رئيسية، كلٌ منها يمثلُمرحلة في رحلة الوعي الروحي:

أولها الاستعداد (The Preparation):

هذه المرحلة تمثل نقطة البداية، حيث يتخلّص الوعي من الأوهام والقيود الماديةوالفكرية. إنها دعوة للتطهيرِ الأوليّ للروح والعقل، للتحرر من المفاهيم المسبقةوالخوف. الهدف هو إعداد الذات لاستقبال الحقائق العميقة.

ثانيها المسيرة (The March):

بعد التخلّص من القيود، يبدأ الوعي في مسيرته. هنا يدركُ الإنسانُ أن الحياة هي حركةدائمة وصراعٌ مستمرٌ وجهادٌ لا ينتهي. تبرز هنا فكرة أن الله ليس كياناً ثابتاً، بل قوةًدافعةً تتطورُ مع كفاح الإنسان.

ثالثها الأعمال (The Act):

هذه المرحلة تركز على أهميةِ الفعلِ والعمل كمفتاحٍ للخلاص والتجاوز. لا يكفي التأملأو الإيمان السِّلبيّ، بل يجبُ على الإنسان أن يترجمَ وعيهُ إلى أفعالٍ ملموسة، أن يشاركبفاعلية في خلق المعنى.

رابعها الصمت (The Silence):

بعد كل هذا الجهدِ والعمل، تأتي مرحلة الصمت. وفيها يتجاوزُ الوعي الكلماتِوالمفاهيم، ويصل إلى نقطة اللاوجود أو اللاوعي، حيث يدرك الوحدةَ مع الكون،ويختبر التجرّد التام من الأنا. وهذه المرحلة ليست استسلاماً، بل هي ذروة التجربةالروحية.

خامسها الوحدة (The Union):

المرحلة الأخيرة هي تحقيق الوحدةِ المطلقة، حيث تتلاشى الفروق بين الفرد والكون،بين الجسد والروح، بين الخالق والمخلوق. هنا يصل الوعي إلى أعلى مستوياته، مدركاًأن إبداعَ الله وقدرتهِ يكمنان في كل شيء، في المكان والزمان وحتى في العدم (اللاوجودبحسب القياس البشري) على حد سواء.

كل (تمرين) في رواية الثعبان والزنبقة، يعمق الفكرة التي تسبقه، ويضيف طبقة جديدةمن الفهم. إنها رواية ذات (بنية حلزونية)، حيث يعود المؤلف إلى مواضيع معينة منزوايا مختلفة، مستخدماً تكراراً إيقاعياً لتعزيز الأفكار وتثبيتها في وعي القارئ

اللغة هنا هي السارد الوحيد، ببلاغتها وكثافتها، لغة شعرية وفلسفية في الوقت ذاته،تتقلبُ بين الاستعارة المجردة والتجلي المادي.

الفلسفة الكامنة بواسطة اقتباسات مفاهيمية:

تكمن الفلسفة الجوهرية لرواية الثعبان والزنبقة في صراع أزلي بين الجسدِ والروح، بينالمادة والوعي، بين الفناء والخلاص، وهو ما يرمز إليه عنوان الرواية نفسه: الثعبان(الجسد) والزنبقة (الروح).

يرى كازنتزاكيس الوجود البشري كساحة معركة مستمرة لهذه القوى، ويدعو الإنسانإلى المشاركة الفاعلة في هذه المعركة. ففي جدلية الجسد والروح تلك يمثل الثعبانالقوة الغريزية، المادة، الأرض، الشهوة، والجزء الفاني من الوجود البشري. إنه(الحيوان) في دواخلنا، الذي يربطنا بالعالم المادي وبالرغبات البدائية. في المقابل،تمثل الزنبقة الروح، الطموح الروحي، النقاء، التسامي، والبحث عن الله أو الحقيقةالمطلقة. هذا الصراع ليس من أجل الانتصار على أحدهما وإبادة الآخر، بل هو صراعمن أجل التكامل... اقتباس: "لا يوجد شيء أكثر من هذا: صراع دائم بين الجسد والروح،محاولة مستمرة للارتقاء بالتراب إلى السماء".

كما يُقدم كازنتزاكيس مفهوماً (راديكالياً) عن الله. فالله هنا ليس كياناً منفصلاً وبعيداً،إنه ليس خالقاً سكونياً، بل هو قوة دافعة تنبع من أعماق الوجود نفسه، قوة تتطوروتنمو مع كل جهدٍ بشري. ويمكن الوصول لذلك المفهوم من خلال عدّة اقتباساتومنها: "إن الله لا يجلس في السماء ليحاسبنا. إن الله يجاهد معنا. هو ليس قاضياً، بلهو محارب. ونحن عصبة المحاربين الذين يجاهدون معه".

إذن، راديكالية نيكوس كازنتزاكيس في فهم الله هي راديكالية فكرية وفلسفية وروحية،تسعى إلى كشف الجذور العميقة للمعنى والوجود البشري. هي راديكالية بناءة تهدفإلى تحرير الروح وتطوير الإنسان. وهي على النقيض التام من المفهوم العام الشعبيلمفردة الراديكالية اليوم التي التصقت بالتطرف والتعصّب والتدمير

ومن خلال الاقتباس: "اذهب إلى أقصى حد ممكن! هذه هي وصية الله لنا. لا تتراجع. لاترض بالراحة. لا تترك شيئاً غير مستكشف"، لا يقدم كازنتزاكيس خلاصاً تقليدياً منخلال الإيمان السلبي أو التوبة فقط. خلاصُه يكمن في (العمل)، و (المعاناة)، و(التجاوز). خلاص الإنسان يكمن في دعوة للوصول إلى أقصى الحدود الممكنةِ للوجودالبشري نفسه، لتجربة كل شيء، حتى الألم والفشل، كجزءٍ لا يتجزأ من الرحلة.

يعتنق كازنتزاكيس فكرة أن المعاناة ليست عقوبة، بل هي فرصة للتطهير والنمو. إنهاالشرارة التي تدفع الإنسان نحو التجاوز. والتحدي بالنسبة للكاتب ليس في تجنبالمعاناة، بل في مواجهتها وتحويلها إلى قوة دافعة، ويمكننا استكشاف ذلك من خلالالاقتباس: "يجب أن نتحرر من عبودية الأمل والخوف. لا شيء يمكن أن يحدث لنا. نحننسير. ما يهم هو المسير نفسه، وليس الوجهة".

ومن خلال عبارة "أنت حر. افعل ما تريد" يضع كازنتزاكيس مسؤولية هائلة على عاتقالإنسان. ليس هناك قدر محتوم أو إرادة إلهية ثابتة تملي على الإنسان ما يفعله. بلالإنسان هو الذي يشكل واقعه ويساهم في تشكيل الصورة الخاصة به للإله نفسه منخلال أفعاله وكفاحه. "أنت حر. افعل ما تريد. هذه هي وصية الله لنا. لا تنتظر تعليماتمن السماء أو الأرض. أنت وحدك سيد مصيرك".

إن الثعبان والزنبقة، على قصرها، ليست رواية للقراءة السهلة، بل هي دعوة للتفكيرالعميق والتأمل الوجودي. بنيتها السردية المتمحورة حول الوعي تفرض على القارئالانخراط التام في رحلة المؤلف الفلسفية. إنها صرخة للصحوة الروحية، لتجاوزالحدود، وللمشاركة الفاعلة في صياغة الوجود.

وفي عالمٍ يميلُ إلى التبسيط والراحة، يقدم كازنتزاكيس رؤية جريئة وملهمة، مُذكّراً إيانابأنّ أعظم المعارك وأجمل الإزهارات تحدث في أعماق الروح، وأن رحلة البحث عن اللههي في جوهرها رحلة بحث عن الذات، عن القوة الكامنة داخلنا لتحويل التراب إلىزنبقة، والفناء إلى خلاص.