نور المولد النبوي يتلألأ في أربيل... مهرجان للثقافة والدين والتعايش

بقلم: أ.م.د. سيروان أنور مجيد
تُعدُّ مدينة أربيل، عاصمة إقليم كوردستان العراق، واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، حيث تمتد جذورها إلى آلاف السنين. تتميز هذه المدينة بتاريخها العريق وتنوعها الثقافي والديني، مما يجعلها نموذجًا حيًا للتعايش السلمي بين مختلف المكونات. من بين المناسبات التي تبرز فيها هذه الروح التعايشية، تأتي ذكرى المولد النبوي الشريف، التي تُحييها أربيل سنويًا بفعاليات دينية واجتماعية وثقافية غنية.
وعليه، تتحوّل مدينة أربيل، عاصمة كوردستان، مع اقتراب ذكرى المولد النبوي الشريف، إلى لوحة حيّة تنبض بالروحانية والاحتفال. من مساجدها وتكاياها الصوفية إلى سوقها التاريخي وأزقتها المزدانة بالألوان والأضواء، يعكس هذا الاحتفال التعايش بين الأديان والثقافات، والتلاحم الاجتماعي، واستمرارية التراث الإسلامي والكوردي في قلب المدينة العريقة.
من جهة تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي في أربيل، فأربيل عاصمة المولد النبوي الشريف في العالم الإسلامي دون منازع، إذ يُعتقد أن أول احتفال رسمي بذكرى المولد النبوي في أربيل جرى في عام 1207 ميلادي، عندما نظم الأمير موظف الدين كوبكري، أحد حكام أربيل في العهد الأيوبي، احتفالًا ضخمًا بهذه المناسبة. وقد تضمن الاحتفال مسيرات مشاعل، توزيع الطعام والشراب، وقراءة القصائد الدينية. منذ ذلك الحين، أصبحت هذه المناسبة جزءًا من التراث الثقافي والديني للمدينة، تُحييها الأجيال المتعاقبة بكل حب واعتزاز.
هذا، وأنّ مظاهر الاحتفال في سوق أربيل، الذي يقع بالقرب من قلعة أربيل التاريخية، مركزًا رئيسيًا للاحتفالات بالمولد النبوي. تكتسي أزقة السوق بالزينة والأنوار، وتُرفع الأعلام واللافتات التي تحمل اسم النبي محمد ﷺ. تُوزع الحلويات والمشروبات على الزوار، وتُقام حلقات الذكر والإنشاد الديني، مما يخلق أجواءً من البهجة والروحانية.
ففي السنوات الأخيرة، شهدت الاحتفالات بالمولد النبوي في أربيل مشاركة واسعة من المواطنين والزوار. على سبيل المثال، في عام 2024، تجمع آلاف الأشخاص حول قلعة أربيل للاحتفال بهذه المناسبة، وهذا العام أكثر، حيث تمّ توزيع الحلويات والمشروبات مجانًا، وتزينت القلعة باللافتات الدينية. كما تمّ تكريم 100 من رجال الدين المتقاعدين، بالإضافة إلى الطلاب المتفوقين في الدراسات الإسلامية، في مراسم رسمية نظمتها حكومة إقليم كوردستان.
فروحانية المساجد والتكايا الصوفية تتلألأ في أربيل، إذ تتصدر المساجد والتكايا الصوفية المشهد، حيث تتناغم أصوات المقرئين بالكوردية والعربية والتركمانية، وهذا إن دلّ على شيء يدل على التنوّع اللغوي والتراثي والحضاري في عاصمة كوردستان، إذ خلالها ينساب الذكر والإنشاد الصوفي بين الأزقّة الضيقة. فالطرق الصوفية، وعلى رأسها القادرية والنقشبندية، تحافظ على جسور التواصل الروحي بين الأجيال، مع إبراز القيم الأخلاقية والروحية لسيرة النبي ﷺ.
ومن حيث الثقافة والهوية، فتلاقي الكوردية والعربية والتركمانية بل حتى الأديان الأخرى سلاما ووئاما انعكاساً لفلسفة الرسول الكريم، المبعوث رحمة للعالمين. وبذلك فالمولد ليس مجرد مناسبة دينية، بل حدث ثقافي متكامل. تُتلى قصائد المولوديات القديمة بالكوردية والعربية والتركمانيّة، وتنظم المدارس والجامعات فعاليات تعليمية تشمل محاضرات ومسابقات ومعارض للكتب. هذه الفعاليات تعكس ازدواجية لغوية وثقافية تؤكد هوية كوردستان المتعددة الأبعاد، وتربط بين التراث الديني والفكر الثقافي الحديث.
فالمولد النبوي في كوردستان سيّما في عاصمة المولد النبوي الشريف في العالم هو مهرجان التكافل والفرح، إذ يتحول المولد إلى مهرجان شعبي يشارك فيه جميع أفراد المجتمع. تُفتح البيوت للأقارب والجيران، وتُوزع الحلويات التقليدية على المحتاجين، في رمز للتكافل والتلاحم الاجتماعي. فحتّى الأطفال يشاركون في الإنشاد الشعبي، فيما يتلقى الكبار والحضور درسًا حيًا في التواصل بين الماضي والحاضر.
ومن هنا، فدور رئاسة الإقليم في الاحتفالات؛ فضلا عن الحكومة والأحزاب باختلافها حاضرة وبقوة في هذه المشاهد، فرئيس الإقليم كان حاضرا في هذا المولد النبوي، كما وتولي رئاسة إقليم كوردستان اهتمامًا خاصًا بذكرى المولد النبوي، حيث تُعلن عن عطلة رسمية في هذه المناسبة، وتُشارك في الفعاليات الرسمية. كما تُصدر رسائل تهنئة تعكس قيم السلام والتعايش والوحدة، مما يُعزّز من مكانة هذه المناسبة في الذاكرة الجماعية للمجتمع الكوردستاني. فجميع الأحزاب الكوردستانية لهم حضور فاعل، ورسالة أخوية تسهم في زيادة الإخاء والسلام في بلد السلام.
وبقي أن نقول:
إن احتفالات المولد النبوي في أربيل وكوردستان ليست مجرد مناسبة دينية فحسب؛ بل هي تجسيد حي للتراث الثقافي والروحي للمدينة. ومن خلال هذه الفعاليات، تُؤكد أربيل هويتها المتنوعة والمتسامحة، وتُبرز نموذجًا للتعايش السلمي والاحترام المتبادل بين مختلف المكونات. إنها دعوة للتأمل في القيم النبيلة التي جاء بها النبي محمد ﷺ، وتأكيد على أن هذه القيم لا تزال حية في قلوب الناس وأفعالهم، وإن المولد عندهم يعكس التقاء الهوية الإسلامية بالهوية القومية الكوردية؛ فضلاً عن المولد النبوي استمرارية التراث، وذلك الفضاء العام الجامع الذي يجمع الدين والثقافة والمجتمع والسياسة. وفي الأخير، فالاحتفال يعزز صورة كوردستان كإقليم متسامح، ويؤكد دور أربيل كمركز لتنظيم وإدارة الفعاليات الكبرى.