رؤية نيجيرفان بارزاني لثورة أيلول 1961م

خاص لموقع hiwar: د هوشيار مظفر علي امين:تُظهر رؤية السيد نيجيرفان بارزاني التي جمعناها من خطبه وكلماته وبياناته حول ذكرى ثورة ايلول1961م، فهمًا شاملًا للتاريخ الكردي والنضال الوطني، فهي تعكس قدرة على الجمع بين الرؤية العسكرية والسياسية، وبين التحليل الاجتماعي والإنساني. في بيانه بمناسبة الذكرى الثالثة والستين قبل عام، لانطلاق الثورة، وصف نيجيرفان الثورة بأنها “ثورة كل شعب كوردستان بجميع مكوناته”، مؤكّدًا أن هذه الثورة لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت لحظة فارقة أسست لوعي قومي متكامل.

سبتمبر 11, 2025 - 14:41
رؤية نيجيرفان بارزاني لثورة أيلول 1961م

يؤكد نيجيرفان في مجمل رؤاه ،أن الثورة بدأت كرد فعل طبيعي على سياسات الإقصاء والظلم التي طالت الشعب الكردي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة. لكنها لم تكن مجرد انتفاضة عابرة، بل كانت خطة مدروسة بعناية بقيادة مصطفى البارزاني، الذي صاغ إستراتيجية تجمع بين القوة العسكرية والتخطيط السياسي، بهدف الدفاع عن الحقوق القومية المشروعة لشعب كردستان. كما وصف نيجيرفان مصطفى البارزاني بأنه “قائد الثورة البارزاني الخالد”، مشيرًا إلى أن نجاح الثورة كان مرهونًا برؤيته الصلبة وقدرته على توحيد القوى الكردية المختلفة تحت قيادة واحدة.

أحد أهم عناصر رؤية نيجيرفان هو التركيز على التنظيم الداخلي للثورة. البيشمركة، وفقًا لتحليله، كانوا القوة الحقيقية التي شكلت العمود الفقري للنضال، حيث تمكنوا من مواجهة القوات الحكومية العراقية رغم الفارق الكبير في الحجم والتجهيزات. نيجيرفان يصف هذا التنظيم بأنه يعتمد على “المرونة والتحرك السريع”، مستفيدًا من تضاريس كردستان الجبلية، ما منح البيشمركة القدرة على الهجوم والدفاع بفعالية عالية. هذه القدرة لم تكن وليدة الصدفة، بل نتيجة سنوات من التدريب والخبرة العسكرية التي اكتسبها مصطفى البارزاني من خلال مواجهة الظروف الصعبة والمعارك السابقة.

الجانب السياسي للثورة كان مكملًا للجانب العسكري. نيجيرفان يرى أن الثورة وضعت أساسًا لاعتراف رسمي بحقوق الشعب الكردي، وأنها كانت “قاعدة لكل المكاسب التالية”. بمعنى آخر، النضال المسلح لم يكن هدفه البقاء على أرض المعركة فقط، بل كان وسيلة للوصول إلى الاعتراف السياسي بالقومية الكردية وحقوقها الدستورية. هذه الرؤية تظهر أن مصطفى البارزاني كان واعيًا لأهمية موازنة القوة العسكرية مع الذكاء السياسي، وقد نجح في استخدام الثورة كأداة لتحقيق أهداف أوسع.

نيجيرفان يصف الثورة بأنها لحظة تضامن جماعي، حيث لم يكن نجاحها ممكنًا دون تضحيات الشعب الكردي بأسره. في بيانه يقول: “سلاماً لأرواحهم الطاهرة وتحية لكل مناضلي تلك الأيام الصعبة الذين لا زالوا على قيد الحياة”. هذه الكلمات تؤكد أن الثورة لم تكن مجرد عمل قيادة فردية، بل نتاج تعاون جماعي بين البيشمركة، القبائل، والمجتمعات المحلية. هذا التلاحم كان أحد أسرار نجاح الثورة، إذ خلق قاعدة شعبية داعمة ومستعدة للمشاركة في النضال السياسي والعسكري.

التحليل العسكري لمعارك الثورة يكشف عن براعة مصطفى البارزاني في استخدام البيئة لصالحه. نيجيرفان يبرز المرونة التكتيكية للبيشمركة، الذين استطاعوا استغلال الجبال والوديان للتحرك بسرعة ومفاجأة القوات الحكومية، مع الحفاظ على أمن القرى والمدنيين. كما يؤكد على أن هذه الاستراتيجية لم تكن مجرد مزيج من الحيلة والمهارة العسكرية، بل كانت نتيجة رؤية استراتيجية واضحة، حيث كانت كل حركة محسوبة لتجنب الخسائر الكبيرة وللحفاظ على استمرار النضال لفترة أطول.

في الجانب الإنساني، يرى نيجيرفان أن مصطفى البارزاني حافظ على الأخلاقيات العسكرية، ولم يسمح بالاعتداء على المدنيين، وهو ما أكسب الثورة احترامًا داخليًا وخارجيًا. هذا الالتزام بالقيم الأخلاقية كان جزءًا من استراتيجية القيادة، إذ يعكس أن النضال يمكن أن يكون فعالًا من دون التفريط بالمبادئ الإنسانية، ويُظهر أن القيادة الحكيمة قادرة على الجمع بين الصرامة العسكرية والمرونة الأخلاقية.

التحليل الاجتماعي للثورة يوضح تأثيرها على الشعب الكردي بأكمله. نيجيرفان يصف الثورة بأنها “الصوت الجهور الصادح للأحرار وقضية عادلة لشعب ووطن قدم كل التضحيات في سبيل الحرية”. هذا يبرز أن الثورة لم تكن مجرد صراع عسكري، بل كانت حركة اجتماعية وسياسية، أعادت تشكيل الوعي الوطني للشعب الكردي، وعززت شعوره بالهوية القومية والكرامة الوطنية. من هذا المنظور، الثورة كانت درسًا للشباب الكردي، حيث أظهرت أهمية التنظيم، الانضباط، والالتزام بالقيم الوطنية.

نيجيرفان يشير مرارا وتكرارا،  إلى دور الثورة في تعزيز الوحدة بين مكونات كردستان كافة، مؤكدًا على “الوئام والتلاحم بين مكوناته كافة”. هذه الوحدة كانت ضرورية لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، وحمت المكتسبات الوطنية من التفتت أو الانقسام. بهذا، ثورة أيلول لم تحقق فقط أهدافًا عسكرية وسياسية، بل رسخت مبدأ التضامن القومي، وهو ما يجعلها نموذجًا للدراسة في النضال القومي الحديث.

من الناحية الدولية، يرى نيجيرفان أن مصطفى البارزاني كان واعيًا لتأثير القوى الإقليمية والدولية على مسار الثورة. الثورة لم تكن منعزلة عن المحيط الإقليمي، وكان لابد من التفكير في كيفية التفاوض مع بغداد ومع القوى الإقليمية والدولية من موقع قوة، لضمان استمرار الحركة وتحقيق الأهداف السياسية. هذه الرؤية الاستراتيجية تظهر أن الثورة كانت عملًا متوازنًا بين المقاومة المحلية وفهم السياق الدولي، وأن القيادة القوية تستطيع استخدام الظروف الخارجية لتعزيز فرص النجاح الداخلي.

نيجيرفان يولي اهتمامًا خاصًا بالاستمرارية والدرس التاريخي للثورة، مؤكّدًا أن النضال لم يتوقف عند حدود 1961، بل امتد ليشكل أساسًا للمراحل التالية في النضال الكردي. الثورة، بحسب قوله، “ستواصل المضي، حيث يحدونا الأمل والتفاؤل، لتحقيق النصر وآمال وأحلام الشهداء ومستقبل أفضل”. هذا يوضح أن الثورة ليست حدثًا مغلقًا، بل عملية مستمرة تتجدد عبر الأجيال، وتعكس فهم نيجيرفان للثورة كمسار طويل من النضال السياسي والاجتماعي والثقافي.

وكل المعارك، كما يراها نيجيرفان، تظهر براعة القيادة في التوقيت واختيار الأهداف. المعارك الأولى في منطقة زاخو وأكد، على سبيل المثال، كانت نموذجًا للتخطيط العسكري الدقيق، حيث تم توجيه هجمات مركزة على النقاط الاستراتيجية لضمان السيطرة على الطرق الرئيسية، مع الحد من الخسائر البشرية. بعدها، استهدفت العمليات تعزيز الوعي الشعبي، عبر إشراك المجتمعات المحلية في حماية القرى وتأمين طرق الإمداد، مما عزز الدعم الداخلي للثورة وجعلها أكثر استدامة.

وهكذا يقدم نيجيرفان ثورة أيلول كدرس متكامل في القيادة، النضال السياسي، والتنظيم الاجتماعي. الثورة لم تكن مجرد صراع مسلح، بل مشروع قومي متكامل أسس لوعي سياسي وشعوري طويل الأمد، وأظهر أن القيادة الحكيمة تستطيع الجمع بين الشجاعة العسكرية والحكمة السياسية، وبين الالتزام بالقيم الوطنية واحترام المبادئ الإنسانية، ليبقى أثرها قائمًا في تشكيل الهوية الوطنية الكردية وتعزيز مكتسبات الشعب الكردي للأجيال القادمة.

::::

::::