حماية مستقبل العراق والعراقيين بالمؤسسات لا الشعارات. كيف يرى نيجيرفان بارزاني آليات حماية العراق وكوردستان؟

خاص لموقعhiwar/د هوشيار مظفر علي امين :::: :::: في ملتقى الشرق الأوسط للبحوث (ميري) الذي انعقد في أربيل اليوم ، قدّم السيد نيجيرفان بارزاني خطاباً هو الأهم في المشهد السياسي العراقي منذ سنوات. لم يكن حديثه مجرد كلمات دبلوماسية عابرة، بل طرحاً متكاملاً لرؤية سياسية وإدارية وأمنية حول مستقبل العراق وإقليم كوردستان والعلاقات الإقليمية والدولية. كان الحوار تحليلاً عميقاً لأزمة الدولة العراقية ومقاربة لسبل حماية كيانها ومؤسساتها، في لحظة تتقاطع فيها التحديات الداخلية مع صراعات الإقليم.

أكتوبر 8, 2025 - 20:24
حماية مستقبل العراق والعراقيين بالمؤسسات لا الشعارات. كيف يرى نيجيرفان بارزاني آليات حماية العراق وكوردستان؟

منذ بداية الجلسة، بدا بارزاني كمن يعيد صياغة سؤال العراق الذي طرح بعد سقوط النظام السابق عام 2003: أين وصل مشروع “العراق الفيدرالي الديمقراطي”؟ وهل لا يزال ممكناً إنقاذه من الانقسام؟ لم يقدّم بارزاني إجابات جاهزة، بل عرض مراجعة نقدية لتجربة عقدين من الدولة الجديدة، من موقع المسؤولية لا المعارضة، واضعاً إصبعه على جوهر الخلل: غياب الدولة المؤسسية، وهيمنة المصالح السياسية على الدستور.

قال بهدوء واضح “لقد بذلنا كل ما في وسعنا لبناء هذا العراق الجديد”. ثم أضاف بمرارة أن المنجز الأكبر، أي الدستور، “لم يُطبّق”، معتبراً أن الفشل في تطبيقه هو أصل الأزمات بين بغداد وأربيل، من الموازنة والنفط إلى البيشمركة والمادة 140.

هذه ليست مجرد شكوى سياسية. هي تشخيص استراتيجي لمرض الدولة العراقية الحديثة، التي ولدت بوعد فيدرالي ديمقراطي لكنها لم تنجح في بناء مؤسسات تحمي هذا الوعد. بارزاني هنا لم يوجه اتهاماً لجهة محددة، بل وجّه تحذيراً للنظام ككل من خطر استمرار الحكم بالشعارات بدل القواعد الدستورية.

حين قال “إذا سألت الشيعة فهم يخشون الماضي، وإذا سألت السنة يقولون إن المستقبل غير واضح، أما الكورد فيخشون الماضي والحاضر والمستقبل معاً”، لم يكن يسعى إلى توصيف شعوري، بل كان يختصر أزمة الثقة الوطنية التي تمنع قيام دولة مواطنة. هذا الاقتباس يمثل عمق رؤيته؛ فالمشكلة ليست فقط في السياسات، بل في غياب الإحساس المشترك بالأمان السياسي، وهو ما يجعل كل مكوّن يعيش في زمن مختلف عن الآخر.

رأى بارزاني أن الحل ليس في إعادة إنتاج تحالفات مؤقتة أو تفاهمات مالية، بل في العودة إلى النص الدستوري باعتباره العقد الجامع الذي وافق عليه أكثر من 80 في المئة من العراقيين. فالدستور بالنسبة إليه ليس وثيقة قانونية فحسب، بل الضمانة الوحيدة لبقاء العراق موحداً.

في مقاربة نيجيرفان بارزاني، حماية العراق لا تكون بالشعارات الوطنية ولا بتغذية النزعات المركزية، بل ببناء مؤسسات فاعلة تحكمها القوانين. لذلك دعا إلى “تحويل تركيز الدولة من الأفراد إلى المؤسسات”، واصفاً الخطر الأكبر بأنه “شخصنة المؤسسات”، أي اختزال الدولة في زعيم أو حزب أو فئة.

المؤسسات هنا ليست مجرد أجهزة إدارية، بل هي أدوات الاستقرار. لهذا ربط بارزاني بين ضعف المؤسسات وغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهو يرى أن استقرار العراق لا يمكن أن يتحقق من دون تطبيق فعلي للدستور، لأن كل ما عدا ذلك مؤقت وهش.

وفي الاقتصاد، حذّر نيحيرفان  بارزاني   في ملتقى الشرق الأوسط للبحوث (ميري) الذي انعقد في أربيل من أن العراق لا يمكنه الاستمرار في دفع ستة مليارات دولار شهرياً كرواتب من دون إصلاحات بنيوية. واعتبر أن أي هبوط في أسعار النفط دون خمسين دولاراً سيقود إلى أزمة مالية حقيقية. هذه ليست لغة تهويل، بل قراءة مالية دقيقة لمعادلة الإنفاق العام، التي يرى أنها تحولت إلى عبء يهدد بنية الدولة.

وحين يقول “ابنِ الدولة من جديد، وحدثنا عما يمكنك أن تقدمه للجيل الجديد”، فهو يوجّه الخطاب للنخب السياسية العراقية. لا يدعو إلى تغيير النظام بل إلى “تغيير مؤسساتي” داخل النظام. يريد تحويل ثقافة الدولة من ثقافة التوظيف والريع إلى ثقافة الإنتاج والإدارة والكفاءة.

واحدة من النقاط الجوهرية في خطابه كانت تفكيك مفهوم الديمقراطية الذي يرى أنه اختُزل في صناديق الاقتراع. قال إن الديمقراطية ليست “هدية يمكن استيرادها من الخارج”، بل ممارسة تنشأ من داخل المجتمع عبر بناء الثقة والمؤسسات. بهذا الطرح، يرفض بارزاني النموذج الشكلي الذي تحوّل فيه التصويت إلى طقس موسمي بلا مضمون مؤسسي.

في خطابه في مؤتمر الشرق الاوسط ميري  يدعو نيجيرفان بارزاني برؤية عراقية وكوردية إلى ديمقراطية فعالة تحكمها العدالة والمساءلة. وفي هذا السياق، وصف الانتخابات المقبلة بأنها “الأهم منذ عام 2005”، لأنها ستحدد مسار العراق نحو الإصلاح أو الانسداد. كانت هذه إشارة إلى لحظة مفصلية، يطلب فيها من القوى العراقية أن تختار بين الاستمرار في الدوران داخل الأزمة، أو القبول بإصلاحات مؤلمة ولكن ضرورية.

وحول بغداد والعلاقة معها أكد نيجيرفان بارزاني أن “العمق الاستراتيجي لإقليم كوردستان هو بغداد”، موضحاً أن هذا ليس مجاملة سياسية بل قناعة راسخة. هذه الجملة تلخص فلسفة العلاقة التي يسعى لترسيخها. فالإقليم لا يريد انفصالاً بل شراكة قائمة على الاحترام والتوازن.

وقال إن العلاقة بين الطرفين يجب أن تقوم على “التفاهم والشراكة الحقيقية لا على المساومات حول الرواتب أو الصلاحيات”. وهذا الموقف يتجاوز لغة المطالب المالية إلى لغة الرؤية السياسية، حيث يسعى بارزاني إلى نقل الحوار من مستوى الأزمة اليومية إلى مستوى الشراكة الدستورية طويلة الأمد.

وفي الجانب الأمني، أطلق بارزاني تحذيراً غير مسبوق حين قال إن الطائرات المسيّرة التي استهدفت إقليم كوردستان “انطلقت من جهات تتلقى رواتب من الدولة العراقية”. هذا الاتهام المباشر يعني أن السيادة العراقية مهددة من داخلها، لا من الخارج فقط.

وأضاف “إقليم كوردستان لن يسكت بعد اليوم على هجمات الدرونات”. ثم طالب بوضع جميع القوات تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة. هذه دعوة لتوحيد القرار العسكري ضمن مؤسسة واحدة، باعتبار أن بقاء التعددية المسلحة هو الخطر الأكبر على الدولة.

بهذا الموقف، قدّم بارزاني معادلة واضحة: لا استقرار من دون احتكار الدولة للسلاح، ولا سيادة مع وجود قوى مسلحة خارج إطار المؤسسات الرسمية.

في تحليله للاحتجاجات التي شهدها العراق منذ 2019، قال إن فشلها كان بسبب “شعارات غير واقعية”، لكنه لم يقلل من أهمية الحراك نفسه. بل حذّر من أن “الخطر الحقيقي ليس الشباب بل القوى التي تمتلك السلاح خارج الدولة”.

هذا التفريق بين النقد المشروع والفوضى المسلحة يعكس عقلية رجل دولة، يميّز بين المطالب الاجتماعية وبين التهديد الأمني. يرى أن الإصلاح الحقيقي لا يأتي من الشارع وحده ولا من السلطة وحدها، بل من توازن بين ضغط المجتمع وبناء المؤسسات.

في الشأن الإقليمي، أظهر بارزاني براغماتية محسوبة. مع إيران، قال إن الإقليم لا يشكّل تهديداً للجمهورية الإسلامية وإن العلاقات الاقتصادية تجاوزت 11 مليار دولار سنوياً. وأشار إلى لقائه مع المرشد علي خامنئي، قائلاً إنه “فتح صفحة جديدة”، مؤكداً أن كوردستان ستكون عامل استقرار لا مصدر خطر.

في هذا الموقف، يتعامل بارزاني مع الجغرافيا كقدر لا يمكن تجاوزه. لا يدعو إلى القطيعة مع طهران، لكنه يضع العلاقة في إطار المصالح المتبادلة والاحترام المتوازن.

أما مع تركيا، فوصف العلاقة بأنها “ودية ومختلفة”، مشيراً إلى جدية أنقرة في المضي بعملية السلام رغم بطئها. لكنه حذّر من “ألاعيب حزب العمال الكوردستاني” التي قد تضر بالشعب الكوردي وتضيّع فرصة تسوية تاريخية.

هو هنا يعلن بوضوح أن أمن كوردستان لا يمكن أن يُرهن لصراعات أطراف كردية مسلحة خارج الإقليم. هذه الرسالة موجهة لأنقرة ولقنديل في آنٍ واحد.

فيما يتعلق بسوريا، قال إن البلاد “أمام فرصتها الأخيرة لبدء مرحلة جديدة”، ودعا الكورد هناك إلى التوجّه نحو دمشق والانخراط في العملية السياسية كـ“أصحاب للبيت لا ضيوف فيه”. هذه رؤية عملية لتسوية الصراع السوري على أساس الاعتراف بالتعدد، وليس التقسيم أو التهميش.

وحذّر من أن أي تدخل خارجي في الشأن الكوردي السوري “لن يقود إلى حل بل إلى مزيد من الأزمات”. هذه العبارة تحمل نقداً واضحاً لتجارب الاعتماد على القوى الدولية بدل الحلول الداخلية.

وأشاد بارزاني بالدور الأمريكي في دعم البيشمركة خلال الحرب ضد داعش، واعتبر أن العلاقة مع واشنطن “استراتيجية وفرصة يجب الحفاظ عليها”. وقال إن الإقليم ينظر إلى أمريكا كحليف ساعده في أحلك الظروف.

بهذا التوصيف، يوازن بين الواقعية السياسية والاستقلالية. فهو لا يتحدث عن تحالف أعمى بل عن شراكة مبنية على المصالح المتبادلة. يريد أن تبقى أمريكا داعماً للاستقرار لا طرفاً في النزاع.

ما يميز خطاب نيجيرفان بارزاني أنه خرج من الإطار الحزبي إلى الإطار الوطني والإقليمي. لم يدافع عن كوردستان ضد بغداد، بل عن فكرة الدولة العراقية التي يمكن أن تتسع للجميع. لم يستخدم لغة المظلومية، بل لغة البناء والاقتراح.

عندما يقول إن بغداد هي العمق الاستراتيجي لكوردستان، فهو يعلن بوضوح أن حماية الإقليم تمر عبر استقرار العراق لا عبر فصله عنه. هذه الرؤية تختلف عن الخطاب الانعزالي الذي ساد في فترات التوتر.

كما أن تركيزه على المؤسسات يعكس فهمه العميق لتجارب المنطقة. فالدول التي انهارت لم تنهَر بسبب ضعف جيوشها، بل بسبب غياب مؤسساتها. لذلك يكرر أن “الاستقرار لا يتحقق بالشعارات أو بالماضي، بل ببناء مؤسسات قوية تحمي مستقبل العراقيين جميعاً”.

من زاوية تحليلية، وكما ارى في خطاب نيجيرفان بارزاني يمكن تلخيص رؤية نيجيرفان بارزاني في ثلاث ركائز:

اولا: الدستور كأساس للشرعية:

فهو يرى أن كل أزمة في العراق هي أزمة دستور غير مطبّق. الحل هو العودة إلى نصوصه لا إلى تسويات سياسية عابرة.

ثانيا: المؤسسات كأداة للاستقرار:

اذ يعتبر أن الدولة لا تُبنى بالأفراد بل بالمؤسسات. شخصنة السلطة تعني تدميرها على المدى البعيد.

ثالثا: التوازن الإقليمي كضمان للأمن:

حيث يسعى نيجيرفان إلى سياسة خارجية عراقية وكوردية توازن بين الجيران الكبار دون انحياز مطلق لأي محور، مع الحفاظ على العلاقة مع واشنطن.

هذه الركائز الثلاث تمثل استراتيجية للبقاء السياسي والاقتصادي والأمني. فالإقليم لا يستطيع أن يعيش معزولاً عن بغداد، والعراق لا يمكن أن يستقر دون كوردستان، والمنطقة لا تهدأ من دون تفاهمات متوازنة بين قواها الكبرى.

في خلفية خطابه، استحضر بارزاني تجربة الكورد قبل 2003 كأمة عانت القمع والانقسام لكنها أسهمت لاحقاً في بناء العراق الجديد. حين تحدث عن القيادات السابقة مثل الزعيم مسعود بارزاني والمام  طالباني، لم يكن يروي سيرة، بل يذكّر بأن الكورد شاركوا في تأسيس النظام الجديد بروح الشراكة، لا الانفصال. لكن هذه الشراكة كما قال “لم تكتمل لأن الدستور بقي معلقاً”.

يبدو بارزاني هنا كمن يحاول استعادة لحظة التأسيس الأولى، لكن برؤية أكثر واقعية. هو يدرك أن العودة إلى الوراء مستحيلة، لذلك يدعو إلى إعادة بناء الدولة من داخلها، بإصلاح المؤسسات وتفعيل الدستور، لا بهدمها.

خطاب نيجيرفان بارزاني في ملتقى ميري لم يكن محلياً فقط. كان بياناً سياسياً شاملاً يعيد تعريف مفهوم الحكم في الشرق الأوسط الجديد. ركّز على أن الصراعات ليست قدراً، بل نتيجة فشل في الإدارة والتخطيط. وأن الدولة الحديثة لا تُحمى بالشعارات ولا بالتاريخ، بل بالمؤسسات التي تطبق القانون على الجميع.

حين قال “لن يتحقق الاستقرار بالشعارات أو بالماضي، بل ببناء مؤسسات قوية تحمي مستقبل العراقيين جميعاً”، كان يختصر فلسفة حكمه ورؤيته للمرحلة المقبلة. هذه الجملة ليست ختام خطاب، بل مشروع حكم.

هو يرى أن حماية العراق وكوردستان تبدأ من احترام الدستور، وبناء مؤسسات عادلة، وتوزيع السلطات بشكل متوازن، وإخراج السلاح من السياسة، والانفتاح على الجيران بعقلانية لا بخوف.

إنه خطاب رجل دولة يحاول إنقاذ فكرة الدولة ذاتها، في بلد يتنازع فيه الماضي والمستقبل على جغرافيا الحاضر.