كيف نفهم فلسفة فهم حقيقة الأقليات الدينية والمذهبية والقومية والعقائدية العراقية؟
إنّ التفكير في الأقليات العراقية ليس تمريناً معرفياً محضاً، ولا بحثاً في تفاصيل اجتماعية سطحية، بل هو محاولة لفهم معنى الكينونة في سياق تاريخي معقد، حيث تتقاطع الهويات الدينية والمذهبية والقومية والعقائدية، فتشكّل لوحة فسيفسائية طالما أثارت الدهشة وأثقلت الكاهل في آن واحد. إنّ هذه الأقليات لا يمكن النظر إليها ككيانات منفصلة أو كجماعات طارئة، بل يجب أن تُفهم بوصفها مكوّناً أصيلاً في البنية التاريخية للعراق، ساهمت في صوغ ملامح حضارته، ودفعت ثمناً باهظاً في تقلبات مصيره.

إنّ فلسفة فهم الأقليات العراقية تستلزم أن نتجاوز المقاربات السطحية التي تكتفي بتعداد الجماعات وشرح شعائرها أو تقاليدها، نحو مقاربة أعمق تضع في الحسبان ثلاثة مستويات: مستوى الوجود التاريخي، مستوى التجربة الاجتماعية، ومستوى الوعي الذاتي. ومن خلال هذه المستويات يمكن إعادة التفكير في معنى الأقلية نفسها، لا باعتبارها مجرد رقم في معادلة ديموغرافية، بل باعتبارها تجربة إنسانية تبحث عن الاعتراف والكرامة والأمن في فضاء وطني مشترك.
المستوى الأول: أي الوجود التاريخي، يكشف أنّ العراق لم يكن يوماً أرضاً خالية ثم دخلتها الأقليات لاحقاً، بل هو فضاء قديم تعاقبت عليه شعوب وديانات وثقافات منذ آلاف السنين. فالمندائيون على سبيل المثال يحملون رواية دينية ترى أنفسهم امتداداً لتقاليد روحية سحيقة في وادي الرافدين، والمسيحيون العراقيون يعتبرون أنفسهم ورثة الكنائس الأولى التي نشأت على ضفاف دجلة والفرات، واليهود الذين شكّلوا يوماً ما أحد أقدم الجماعات في العراق كانوا جزءاً عضوياً من نسيجه الاقتصادي والثقافي. إنّ هذا الامتداد التاريخي يجعل من الأقليات ركناً في الهوية الوطنية، لا زائراً غريباً ولا عنصراً مستعاراً.
المستوى الثاني: أي التجربة الاجتماعية، فيرتبط بعلاقة هذه الأقليات ببعضها وبالأكثرية. فالأقليات ليست كيانات مغلقة، بل كانت ولا تزال تتفاعل مع المحيط، تدخل في علاقات تبادل وتعاون وصراع، وتعيد تعريف نفسها بحسب السياق. لقد عاش الأرمن مثلاً في بغداد والموصل والبصرة، وشاركوا في الحياة الاقتصادية والفنية، كما شارك الكرد الفيليون في التجارة والسياسة، ووجد الشبك والتركمان مكانهم في الشمال بمزيج من التمايز والاندماج. إنّ التجربة الاجتماعية للأقليات العراقية تكشف عن قدرة على التكيّف والإسهام، لكنها تكشف أيضاً عن هشاشة وضعهم في لحظات التحولات الكبرى، حيث يصبحون الحلقة الأضعف أمام العنف والتهجير والتهميش.
المستوى الثالث: أي الوعي الذاتي، يفتح باباً على البعد الفلسفي. فالأقلية ليست مجرد واقع موضوعي يحدده العدد، بل هي كذلك إحساس بالتمايز والاختلاف، ووعي بالهوية في مواجهة الآخر. وقد يكون هذا الوعي مصدر قوة وإبداع، كما قد يتحول إلى جرح مفتوح يشعر أصحابه بالخذلان. هنا تكمن معضلة الأقليات العراقية: كيف يمكنها أن تحافظ على خصوصيتها الثقافية والدينية والمذهبية من دون أن تقع في عزلة قاتلة، وكيف يمكنها أن تشارك في الفضاء الوطني المشترك من دون أن تذوب أو تُفرض عليها هوية مغايرة؟
إنّ فهم حقيقة الأقليات العراقية لا يكتمل من دون إدراك التوتر الدائم بين الرغبة في الاندماج والخوف من الذوبان، وبين السعي للاعتراف والقلق من الإقصاء. إنّها معادلة وجودية عميقة تتكرر عبر التاريخ. ففي فترات الاستقرار والازدهار الحضاري كان العراق يتسع للجميع، وكانت الأقليات جزءاً من نسيجه المزدهر. أما في فترات الأزمات السياسية أو التدخلات الخارجية، فإنّ هذه الأقليات كانت أول من يدفع الثمن، فيُستهدف وجودها وتُخترق أمانها، وتُحمّل تبعات صراعات لا يد لها فيها.
بعد عام 2003 دخلت الأقليات العراقية مرحلة جديدة شديدة التعقيد. فالنظام السياسي الذي تأسس على أنقاض الدولة الدكتاتورية السابقة أفرز تناقضات عميقة. من جهة، فتح المجال أمام الاعتراف الدستوري ببعض الحقوق الثقافية والسياسية، ومن جهة أخرى أدى انهيار مؤسسات الدولة إلى انفلات أمني بعد2003 لغاية 2008 م، جعل الأقليات عرضة لتهديدات غير مسبوقة. شهدت تلك السنوات تهجيراً واسعاً للمسيحيين من الموصل وسهل نينوى، واستهدافاً للمندائيين بالقتل والخطف، وتهجيراً للكرد الفيليين، وتصاعد العنف ضد الشبك واليزيديين. من قبل الارهاب القاعدي والداعشي من بعد ذلك في 2014م، ولقد تكثف في هذه المرحلة الشعور بأن الأقليات ليست محمية بنصوص القانون وحدها، بل تحتاج إلى ضمانة فعلية تتجسد في سلطة قادرة على فرض النظام والعدل.
إنّ التجربة بعد 2003 كشفت تناقضاً بين النص والواقع. فالدستور نص على المساواة، لكن الخطاب السياسي والاجتماعي بقي مشدوداً إلى منطق الأكثرية والمكونات الكبرى. وهنا برزت أزمة الفلسفة السياسية في العراق: كيف يمكن أن يُبنى نظام ديمقراطي حقيقي في بلد تتوزعه انتماءات متداخلة، حيث تصبح الهوية الطائفية أو القومية أداة للصراع بدل أن تكون إطاراً للتعايش؟ الأقليات العراقية عاشت هذه الأزمة بشكل مضاعف، لأنها لم تجد نفسها طرفاً وازناً في الصراعات السياسية، بل مجرد ساحة مفتوحة للتأثر بنتائجها.
ولقد جاءت لحظة صعود تنظيم داعش الارهابي عام 2014 لتكشف عمق الهشاشة. فما جرى بحق اليزيديين في سنجار من إبادة وتهجير واسترقاق، وما جرى بحق المسيحيين في الموصل من تهديد وتهجير جماعي، لم يكن مجرد حدث سياسي أو أمني، بل كان جرحاً فلسفياً وأخلاقياً في الوعي الإنساني. لقد كشفت تلك اللحظة أنّ الأقليات قد تتحول بين ليلة وضحاها من مواطنين إلى غرباء مهددين بالزوال، وأنّ الضمانات النظرية لا تكفي ما لم يرافقها وعي جمعي يرى في حماية التنوع مسؤولية وجودية لا تنازل عنها.
إنّ الفلسفة المحللة للاقليات العراقية ها هنا تدعونا للتأمل: ما معنى الوطن إذا لم يوفر الأمان لجميع أبنائه؟ ما قيمة الهوية الوطنية إذا كان جزء من مواطنيها يعيشون كلاجئين في الداخل أو كمنفيين في الخارج؟ كيف يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية إذا لم يكن التنوع محمياً على أرض الواقع؟
إنّ التحدي المستقبلي أمام العراق يتمثل في إعادة تعريف العقد الاجتماعي. فالأقليات ليست مطالبة فقط بأن تُدمج في بنية الدولة، بل بأن تكون شريكاً في صياغة مستقبلها. وهذا يتطلب ثلاثة شروط أساسية:
أولا: بناء دولة قانون قوية تحمي جميع المواطنين من دون تمييز، وتفرض هيبتها على الجميع. فلا معنى لأي فلسفة عن التعايش إذا بقيت الأقليات تحت رحمة الميليشيات أو الصراعات المسلحة.
ثانيا: إعادة صياغة الهوية الوطنية على أساس التعدد، بحيث يشعر كل فرد أن انتماءه الديني أو المذهبي أو القومي ليس عقبة أمام مواطنيته، بل هو جزء من غنى الوطن. الهوية الوطنية العراقية لا ينبغي أن تُختزل في بعد واحد، بل يجب أن تعكس حقيقة العراق بوصفه ملتقى حضارات وديانات.
ثالثا: نشر ثقافة الاعتراف، وهي ثقافة لا تُفرض بالقوانين فقط، بل تُزرع في المدارس والإعلام والخطاب الديني. الاعتراف بالآخر ليس مجرد قبول بوجوده، بل احترام لحقه في أن يكون مختلفاً. وهذه هي الفلسفة الأعمق التي يحتاجها العراق: أن يرى في التنوع شرطاً للوجود، لا تهديداً له.
إنّ الأقليات العراقية كما ارى وعالجتها في كتابي عن المشاركة السياسية للاقليات العراقية بعد2003م وكتابي عن البهائية وكتابي القادم:" معجم الاقليات العراقية": ليست عبئاً على الوطن، بل هي أحد شروط غناه. فهي تذكرنا بأنّ الإنسان لا يُختزل في هوية واحدة، وأنّ المجتمعات لا تزدهر إلا حين تحمي تنوعها. وإذا ما أردنا أن نفهم فلسفة وجود الأقليات، فعلينا أن نطرح السؤال بصيغة مقلوبة: هل يمكن أن نتصور عراقاً بلا أقلياته؟ الجواب أنّ مثل هذا العراق سيكون فقيراً، منغلقاً، فاقداً لروحه التاريخية.
إنّ التجربة العراقية بعد 2003 بكل آلامها تكشف أنّ الأقليات ليست فقط موضوعاً للبحث الأكاديمي، بل هي مرآة تكشف مأزق الدولة العراقية ذاتها. فإذا ما وجدت الأقليات الأمان والاعتراف، فهذا يعني أن الدولة تسير في طريق التعافي. وإذا بقيت مهمشة أو مهددة، فهذا يعني أنّ الجرح لا يزال مفتوحاً. وهنا يكمن المعنى الفلسفي العميق: مصير الأقليات هو معيار لمصير الوطن بأكمله.
إنّ مستقبل العراق يتوقف على قدرته في تحويل مأساته إلى درس، وجراحه إلى وعي جديد. وإذا كان الفلاسفة قد رأوا أنّ معنى الإنسان يتجسد في قدرته على الاعتراف بالآخر، فإنّ العراق مدعو لأن يجسد هذه الفلسفة في واقعه السياسي والاجتماعي. الأقليات العراقية ليست مجرد أرقام في الإحصاءات، بل هي تعبير عن إنسانية العراق، وعن قدرته على أن يكون فضاء للتعدد والعيش المشترك.
- اكرم طالب الوشاح
متخصص في الاقليات العراقية
وكبير باحثي مجموعة ادارة الازمة وقيادة الصراع في العراق ومستشار منظمة ادارة الازمة لشؤون الاقليات العراقية
ومحرر مجلة ادارة الازمة
صدرت له: الاقليات العراقية والبهائية والسياسة الخارجية العراقية وقريبا يصدر له:" معجم الاقليات العراقية"