الإقليم... دبلوماسية الهدوء بين أربيل وقامشلو

بقلم: أ.م.د. سيروان أنور مجيد
في منطقة تتقاذفها أمواج التجاذبات السياسية وتتصادم فيها مصالح القوى الإقليمية والدولية، نجحت رئاسة إقليم كوردستان في رسم ملامح سياسة هادئة الطابع، متزنة في خطابها، وعميقة في رؤيتها. سياسة تجمع بين الاعتدال الدبلوماسي والواقعية السياسية، خصوصًا فيما يتعلق بالملف السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد).
فبينما تتحول الجغرافيا السورية إلى لوحة متشابكة من الصراعات والمصالح الكبرى، يسعى رئاسة الإقليم، بذكاء سياسي لافت، إلى تجنيب كوردستان والعراق ارتدادات هذا الصراع، عبر نهج يقوم على الحياد الإيجابي والدعم غير المباشر لكل مسار يفضي إلى حل سياسي مستدام في سوريا.
في رؤيته لمستقبل سوريا، يؤكد رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني أن:
"سوريا لم تعد قابلة للإدارة المركزية بعد اليوم". ويعتبر أن التعدد القومي والديني يستدعي نظام حكم لامركزي أو فيدرالي يضمن الحقوق السياسية والاجتماعية لجميع المكونات، وفي مقدمتهم الكورد.
ولعل أبرز ما يميّز خطابه هو إصراره على أن:
"كورد روجافا ليسوا ضيوفًا على وطنهم"، داعيًا إلى فتح قنوات تواصل مباشرة مع دمشق لضمان مشاركتهم الفاعلة في أي تسوية مستقبلية.
ومن خلال دعم الإقليم للحوار بين “قسد” والنظام السوري، يُنظر اليوم إلى رئاسة الإقليم كٳحدی أكثر الوسطاء قدرة على بناء جسور الثقة بين الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا والنظام السوري، في ظل غياب قنوات رسمية فعّالة.
ورغم تحفظه رئيس الٳقليم على فكرة دمج “قسد” كليًا في الجيش السوري، إلا أنه يطرح صيغة وسط تضمن الحفاظ على البنية الدفاعية المحلية ضمن إطار وطني جامع، دون المساس باستقلالية القرار الذاتي للمناطق الكوردية.
وفي خطابه المتكرر حول وحدة الصف الكوردي السوري، تتجلّى رؤية رئاسة الإقليم في دعوة صادقة لتجاوز الخلافات الداخلية التي أضعفت الموقف الكوردي في المحافل الإقليمية والدولية. هذه الرسالة، التي تتردد على لسان القيادة السياسية والشعب معًا، تعبّر عن وجع أمة حُرمت من نور دولتها مرارًا، وتؤكد أن الوحدة هي السبيل الوحيد لصون الحلم الكوردي في أرضه وكرامته.
ويرى مراقبون أن هذه المقاربة الهادئة تجعل من رئاسة الإقليم جسرًا سياسيًا نادرًا في الشرق الأوسط، قادرًا على وصل ما انقطع بين الفرقاء، مستندًا إلى تجربة كوردستان في العراق بوصفها نموذجًا ناجحًا للتعايش السياسي والإداري، يمكن أن يُحتذى به في سوريا المستقبل.
ومن هنا، وحسب ما يلحظ في إعلام رئاسة الإقليم، تبنّى رئيس الٳقليم سياسة خارجية متوازنة وواقعية، لا تميل إلى أي محور على حساب آخر، بل تسعى إلى حفظ العلاقات المستقرة مع أنقرة وطهران ودمشق في آنٍ واحد، إلى جانب تعزيز الحضور الدبلوماسي للإقليم في العواصم العربية والغربية باعتباره فاعل استقرارٍ لا طرفَ نزاع.
وقد أضحت أربيل، بهذه السياسة، نموذجًا للإدارة الرشيدة التي تتعامل مع الملفات الإقليمية ببراغماتية هادئة وبعيدة عن الانفعال، ما جعلها تحظى باحترام الأطراف كافة. وتشير مصادر سياسية ودبلوماسية إلى أن رئاسة الإقليم تسعى بوعي إلى أن تكون عاملَ تيسيرٍ للحوار الإقليمي لا ساحةً لتصعيد الصراع، مستفيدة من تجربتها الفريدة في إدارة التعددية القومية والدينية ضمن العراق الاتحادي، لتطرح رؤية يمكن أن تُلهم حلًا مشابهًا في سوريا، يقوم على التوازن والعدالة وتقاسم السلطة.
وفي الختام، يمكن القول إن بين ضجيج الصراعات الإقليمية وتنازع المصالح الدولية، تبرز رئاسة الإقليم كأحد أكثر الأصوات عقلانية وهدوءًا في مقاربة الملف السوري.
فكوردستان لا تقدّم نفسها وسيطًا سياسيًا فحسب، بل صوتًا للعقلانية في زمن الانقسام، تسعى لترسيخ تجربتها كنموذج يمكن تكراره في الشرق الأوسط، حيث تشكّل اللامركزية والاعتدال طريقًا نحو سلامٍ مستدام واستقرارٍ دائم.