رئاسة الإقليم بين مطرقة الخلافات وسندان الاستحقاق الوطني

أكتوبر 2, 2025 - 21:07
رئاسة الإقليم بين مطرقة الخلافات وسندان الاستحقاق الوطني

بقلم: أ.م.د. سيروان أنور مجيد

  تشهد رئاسة إقليم كوردستان اليوم واحدة من أدق مراحلها منذ تأسيسها، فهي المنصب الذي يجمع بين الرمزية الدستورية والشرعية السياسية، وتُناط به مهمة الحفاظ على التوازن الداخلي وتمثيل الإقليم أمام بغداد والمجتمع الدولي. غير أن أزمة تشكيل الحكومة الأخيرة، والتي تجاوزت أكثر من عام ونصف من التعطيل والمفاوضات، وضعت الرئاسة أمام اختبار مصيري كشف حجم التحديات التي يواجهها هذا الموقع الحساس.

من الناحية القانونية، يتمتع رئيس الإقليم بصلاحيات واسعة وفق قانون رئاسة الإقليم لعام 2005، تشمل قيادة قوات البيشمركة والمصادقة على القوانين وتمثيل الإقليم في المحافل الخارجية، إضافة إلى الدعوة للانتخابات وتكليف رئيس الحكومة. إلا أن هذه الصلاحيات تبقى مشروطة بواقع سياسي معقد، إذ إن نتائج الانتخابات الأخيرة منحت الحزب الديمقراطي الكوردستاني تسعة وثلاثين مقعداً، في مقابل أربعة وعشرين مقعداً للاتحاد الوطني الكوردستاني، ما جعل أي قرار سياسي أو حكومي رهناً بالتفاهم بين القطبين الرئيسيين.

هذا، وإنّ أزمة تشكيل الحكومة قد جسّدت هذا الانقسام بوضوح. فالاتحاد الوطني يطالب بوزارة الداخلية والأمن لضمان شراكته، في حين يتمسك الحزب الديمقراطي بملفات النفط والعلاقات الخارجية. ورغم محاولات رئاسة الإقليم جمع الطرفين على طاولة واحدة، فإن غياب الثقة المتبادل جعل المبادرات غير قادرة على إنتاج اتفاق حقيقي، لتظل الرئاسة عالقة بين دورها المفترض كوسيط جامع وبين قيود الواقع الحزبي الذي يفرض حساباته على المنصب.

ومن هنا، فلا تقف الأزمة عند حدود البيت الكوردي الداخلي، بل تمتد إلى العلاقة المعقدة مع بغداد. ففي موازنة العراق لعام 2023 خُصص نحو ستة عشر تريليوناً وستمئة مليار دينار عراقي – أي ما يقارب اثني عشر مليار دولار – للإقليم، بشرط تسليم أكثر من مئتي ألف برميل من النفط يومياً عبر شركة "سومو". غير أن الخلافات حول آليات التصدير وتقاسم العائدات أضعفت قدرة الإقليم على الالتزام بهذه الشروط، الأمر الذي انعكس مباشرة على دور رئاسة الإقليم، حيث باتت تحركاتها في بغداد محدودة التأثير لغياب الموقف الكوردي الموحد.

أما على المستوى الخارجي، فقد ظلت رئاسة الإقليم تمثل الواجهة الدبلوماسية الأساسية. فخلال عام 2023 استقبل الرئيس نيجيرفان بارزاني أكثر من خمسة وستين وفداً أجنبياً، من بينهم مسؤولون أميركيون وأوروبيون وأتراك. ومع ذلك، فإن استمرار الأزمة الداخلية حدّ من تأثير هذه اللقاءات، فبدلاً من أن تكون أدوات ضغط قادرة على إحداث فرق سياسي، أصبحت أكثر محدودية، حيث يشترط المجتمع الدولي وجود وحدة الصف الداخلي قبل تقديم أي دعم فعلي.

     في ضوء هذه التحديات، تبدو رئاسة الإقليم وكأنها تسير على حافة دقيقة بين طموح لعب دور الحكم السياسي الجامع وبين واقع القيود الحزبية التي تقلّص من استقلاليتها. وفي واقع حال البيت الكوردي الداخلي فهي عاجزة داخلياً عن فرض حلول ملزمة دون تفاهم الحزبين، ومقيدة اتحادياً في تعاملها مع بغداد، ومكبلة خارجياً بفعل صورة الانقسام التي تنعكس على مكانة الإقليم في الإقليم والعالم.

ومع ذلك، تبقى رئاسة الإقليم أكثر من مجرد منصب إداري أو بروتوكولي. إنها الخيمة الجامعة فوق تناقضات البيت الكوردي، والرمز الذي يمكن أن يعيد جمع الفرقاء إذا ما تحرر من ضيق الحسابات الحزبية. صحيح أن الخطوات بطيئة، وأن المصالح المتشابكة تجعل الطريق وعراً، لكن يظل المنصب الرئاسي قادراً، بحكم رمزيته ومكانته، على أن يؤدي دوره في حل الأمور، ورأب الصدع، وإعادة رسم صورة كوردستان كبيت سياسي واحد لا كساحة صراع دائم. فإذا نجحت الرئاسة في هذا الامتحان، فإنها ستستعيد مكانتها كضامن للوحدة والاستقرار، أما إذا بقيت أسيرة الانقسام، فسيتحول المنصب تدريجياً إلى إطار شرفي فاقد للجوهر. وبين هذين المصيرين يتحدد مستقبل الإقليم... ولكن الشعب الكوردي يتأمّل الأوّل... وللكلام بقية.