نبض الإيمان في زمن العاصفة: رسالة وداع من قلب أربيل

بقلم: لينا بنيامين
في فجر الاثنين الفصحي، ٢١ نيسان٢٠٢٥، غابت شمعة مضيئة من شموع السلام في عالمنا المضطرب. رحل قداسة البابا فرنسيس عن عمر ناهز ٨٨ عاماً، بعد حياة قاد فيها الكنيسة الكاثوليكية ليس فقط بروحانيته، بل بجرأته الإنسانية وإيمانه العميق بالكرامة البشرية للجميع، دون استثناء أو تمييز.
بالنسبة لي، لم يكن البابا فرنسيس مجرد رمز ديني عالمي. كان صوتاً عابراً للقارات، وصل إلى قلبي وقلب آلاف العراقيين المسيحيين الذين وجدوا في كلماته عزاءً وفي مواقفه رجاءً. كطالبة عراقية مسيحية نزحت مع عائلتي من بغداد إلى أربيل خلال سنوات الرعب الطائفي، حملت معي شعوراً بالضياع والانكسار. لكن في كلمات البابا، وفي زيارته لنا، وجدت نفسي أستعيد إيماني بأن العالم لم يغلق أبوابه في وجوهنا.
كانت زيارته التاريخية إلى العراق في آذار ٢٠٢١ لحظة مفصلية في ذاكرتنا الجماعية. حين وطأت قدماه أربيل، لم يكن فقط يزور مدينة، بل كان يحتضن شعباً كاملاً عانى بصمت، يمنحه اعترافاً طال انتظاره. رأيته في ملعب فرانسو حريري، يرفع صوته من أجلنا، يؤم القداس وسط الحشود، ويقول للعالم: نحن هنا. نحن باقون.
أذكر جيداً ذاك اليوم، كيف امتلأت وجوه الحاضرين بدموع الفرح والخشوع. لم تكن دموع طقسية بل دموع عودة الروح. من خلال تلك اللحظة، منحنا البابا فرنسيس، نحن المسيحيين العراقيين، شعوراً بأننا لسنا متروكين، وأن الله ما زال يُرسل لنا من يرفع صوت الحق وسط الضجيج.
لقد وجدت في كوردستان ملاذاً آمناً، ليس فقط بالمعنى الجغرافي، بل الإنساني أيضاً. في هذا الإقليم، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون والإيزيديون بسلام نسبي رغم كل التحديات، وجدت فرصة لحياة جديدة، وفرصة للدراسة في الجامعة الكاثوليكية في أربيل، المؤسسة التي وُلدت من رحم الحاجة، ونمت بدعم كريم من البابا فرنسيس والرئيس نيجيرفان بارزاني. لم تكن هذه الجامعة مجرد صرح أكاديمي، بل مساحة حوار وتجدد فكري، تُجسد رسالة البابا في كل زاوية منها.
داخل أسوار الجامعة، عشت تجارب معرفية وإنسانية غنية. شاركت في ندوات جمعت طلاباً من خلفيات دينية مختلفة، وتناقشنا في قضايا الإيمان والحرية، واستندنا إلى رسائل البابا حول الأخوة الإنسانية والصداقة الاجتماعية. في تلك اللحظات، أدركت أن التعليم ليس فقط أداة للمعرفة، بل للسلام الحقيقي.
لقد لعب الرئيس نيجيرفان بارزاني دوراً محورياً في ترسيخ قيم التعددية، وكان شريكاً صادقاً للفاتيكان في حماية التنوع الديني. ما فعله الرئيس بارزاني لم يكن تفضّلاً، بل تعبيراً عن قيم راسخة في وجدان الشعب الكردي. دعم المجتمعات المسيحية لم يكن خطاباً سياسياً، بل سياسة واقعية تُترجم إلى إعادة إعمار قرى دمرها داعش، وتوفير منح دراسية، ودعم المؤسسات الثقافية والدينية، وضمان تمثيل سياسي حقيقي.
وحين اجتمع بالرئيس نيجيرفان بارزاني في أربيل، رأينا توافقاً بين رجلين يحملان إيماناً مشتركاً بقوة التعايش كضرورة وجودية. كان لقاؤهما لحظة نادرة تجسدت فيها قوة القيم على حساب المصالح، ومثّلت فرصة ذهبية لعرض صورة كردستان كواحة للسلام في منطقة لا تهدأ.
في لحظة وداع قداسته، أشعر، كما يشعر كثيرون، أننا فقدنا أباً روحيّاً وقف معنا في العتمة. لكنني أؤمن أن الإرث الحقيقي لا يُدفن مع الجسد، بل يُحمل في الأرواح. إرث البابا فرنسيس لا يُحزننا فقط، بل يحفّزنا لنكمل المسير.
نحن اليوم، في كوردستان وفي العراق، مدعوون لأن نحافظ على هذه الرؤية. أن نستمر في بناء الجسور، وفي تعزيز مؤسسات ترحب بالجميع، وفي صون الفضاءات المشتركة التي تحترم الاختلاف لا تخشاه.
أختم مقالي كما بدأته، بقلب ممتن، وعيون دامعة. ممتنة لأنني عشت زمن هذا الرجل، لأنني شهدت أثره، لأنني تعلمت في مؤسسة رعاها، وعشت في مجتمع رعاه. ودامعة لأن غيابه يترك فراغاً لن يملأه إلا مزيد من الأمل، ومزيد من الفعل.
من أربيل إلى الفاتيكان، تصل صلاتنا وشهادتنا بأنك كنت، وستبقى، صوتاً للسلام في زمن الصراع.