الدبلوماسية الهادئة في عالم متوتر: قراءة في موقف رئيس إقليم كوردستان من الحرب

يونيو 30, 2025 - 21:37
الدبلوماسية الهادئة في عالم متوتر: قراءة في موقف رئيس إقليم كوردستان من الحرب

بقلم: سيروان عبد الكريم علي

 سياسي وأكاديمي

 في عالم يشهد تصاعداً مستمراً في حدة التوترات الجيوسياسية، تبرز أهمية المواقف المتزنة التي تنأى بالذات عن الانجرار في دوامة الصراعات الإقليمية. وفي هذا السياق، يستحق الموقف الذي اتخذته رئيس إقليم كوردستان العراق تجاه التطورات الأخيرة في المنطقة وقفة تحليلية، خاصة في ضوء ما أوردته وكالة تسنيم الإيرانية من تفاصيل حول هذا الموقف. تكشف المتابعة الدقيقة للمواقف المعلنة من أربيل عن نهج واضح يقوم على مبدأ "عدم الانجرار"، وهو نهج يعكس فهماً عميقاً لطبيعة المرحلة الراهنة وتعقيداتها الجيوسياسية. فبدلاً من اتخاذ مواقف حادة أو انحيازية قد تجر الإقليم إلى الدمار المحتوم، اختار رئيس إقليم كوردستان العراق مسار الحكمة والتعقل. هذا النهج لا يأتي من فراغ، بل ينبع من إدراك واقعي لمعادلة القوى في المنطقة، وفهم عميق لحقيقة أن الإقليم، رغم إنجازاته السياسية والاقتصادية، يبقى كياناً يعتمد على التوازن الدقيق في علاقاته الإقليمية والدولية.

 ما يلفت النظر في موقف رئيس الإقليم السيد نيجيرفان بارزاني هو قدرته على التوفيق بين عدة اعتبارات معقدة في آن واحد. فمن جهة، هناك ضرورة الحفاظ على العلاقات الإيجابية مع إيران، الجار الاستراتيجي الذي تربطه بالإقليم علاقات اقتصادية وثقافية وتاريخية عميقة. ومن جهة أخرى، هناك الحاجة إلى عدم استفزاز القوى الدولية الأخرى التي لها مصالح في المنطقة.

 وفقاً لما نشرته وكالة تسنيم، فإن موقف رئيس إقليم كوردستان العراق يضمن إدانة واضحة للهجمات، مما يعكس التزاماً بالمبادئ الإنسانية والقانونية الدولية، بصرف النظر عن هوية الأطراف المتصارعة. هذا الموقف المبدئي يعزز من مكانة الإقليم كصوت معتدل في منطقة تعج بالتطرف والتشدد. يمكن قراءة هذا الموقف كدرس متقدم في فن الدبلوماسية الحديثة، التي لا تعتمد على الصوت العالي أو المواقف الاستعراضية، بل على الحركة الذكية والحذرة في المتاهة المعقدة للسياسة الإقليمية. فالدبلوماسية الناجحة في عالم اليوم تتطلب القدرة على قول "لا" دون إثارة عداوات.

هذا النهج يذكرنا بنموذج الدول التي نجحت في الحفاظ على استقلاليتها وازدهارها من خلال اتباع سياسات خارجية متوازنة، مثل سويسرا في أوروبا أو سنغافورة في آسيا. فهذه الدول أدركت أن البقاء والازدهار في عالم الكبار يتطلب ذكاءً استراتيجياً أكثر من القوة العسكرية أو الموارد الطبيعية. لكن هذا المسار المتوازن لا يخلو من التحديات. فالضغوط الإقليمية والدولية قد تتزايد، والمطالب بتوضيح المواقف أو اتخاذ قرارات حاسمة قد تتصاعد. في مثل هذه الحالات، ستحتاج القيادة الكردستانية إلى مهارات دبلوماسية عالية للحفاظ على توازنها دون التضحية بمصالحها الأساسية.

من جهة أخرى، يفتح هذا النهج المتوازن فرصاً حقيقية أمام الإقليم ليلعب دوراً بناءً كوسيط أو جسر للحوار بين الأطراف المتصارعة في المنطقة. فموقعه الجغرافي الاستراتيجي، إضافة إلى تجربته في إدارة التنوع الثقافي والديني، يؤهلانه لأن يكون منصة للحوار والتفاهم. وراء الموقف الظاهر، تختبئ رسائل سياسية مهمة. فالإدانة الصريحة للهجمات ترسل رسالة واضحة بأن الإقليم يرفض استخدام القوة كوسيلة لحل النزاعات، وأنه ملتزم بالقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية. كما أن التأكيد على عدم السماح باستخدام أراضيه لأغراض عدائية يعكس احتراماً لسيادة الدول المجاورة ورغبة في تجنب أي تصعيد قد يضر بالاستقرار الإقليمي.

 هذه الرسائل لا تخاطب الأطراف الإقليمية فقط، بل تتجه أيضاً إلى المجتمع الدولي، لتؤكد أن إقليم كوردستان شريك موثوق في جهود السلام والاستقرار، وليس مصدراً للتوتر أو عدم الاستقرار. في النهاية، قد يكون موقف رئيس إقليم كوردستان العراق إيذاناً ببروز نموذج جديد في السياسة الإقليمية، نموذج يقوم على الحكمة بدلاً من القوة، وعلى الدبلوماسية بدلاً من التصعيد، وعلى البحث عن المصالح المشتركة بدلاً من تأجيج الصراعات. فقد أثبت رئيس الإقليم، السيد نيجيرفان بارزاني قدرته على الصمود أمام الضغوط المتزايدة، والنجاح في تحقيق المصالح الوطنية للإقليم والعراق دون التضحية بالمبادئ أو زعزعة الاستقرار.

 هذا النموذج، الناجح، قد يلهم كيانات سياسية أخرى في المنطقة لاتباع نهج مشابه، مما قد يساهم في تهدئة التوترات الإقليمية وفتح آفاق جديدة للتعاون والحوار. وفي عالم يبدو وكأنه يتجه نحو المزيد من الاستقطاب والصراع، تبرز أهمية مثل هذه الأصوات المعتدلة. والمؤشرات الأولية، كما تعكسها التقارير الإعلامية والمواقف المعلنة، تبدو إيجابية ومشجعة.