حمامة السلام العراقي الكوردي "نيجيرفان بارزاني وقراءة في دوره في السلم العراقي والكوردي"
خاص لمجلة ادارة الازمة وموقعhiwar/ د هوشيار مظفر علي امين:نيجيرفان بارزاني اسم ارتبط لسنوات طويلة بالحركة السياسية في العراق لكنه خلال العقد الأخير تحول إلى نموذج مختلف عن الصورة التقليدية للسياسي الكردي التي ارتسمت في أذهان العرب والعالم فقد خرج من الإطار الحزبي الضيق إلى مساحة أوسع تضعه في موقع المفاوض وصانع التفاهمات وسفير السلام الذي يسعى إلى حماية ما تبقى من توازن هش بين العرب والكرد وبين العراق ودول الجوار وبين العراق والعالم ولم يكن ذلك وليد صدفة أو تحركاً آنياً بل مساراً طويلاً بدأ منذ سنوات مبكرة عندما قرر أن ينظر إلى التجربة الكردية داخل العراق على أنها جزء من دولة وليست بديلاً عنها

ففي السنوات التي أعقبت 2003 عندما دخل العراق مرحلة إعادة بناء الدولة بعد سقوط النظام السابق كانت الهوية العراقية تعاني من التصدع والانقسام وكانت الثقة بين بغداد وأربيل شبه معدومة وكان المزاج السياسي مشحوناً بالخوف من الانفصال ومع كل ذلك بدأ نيجيرفان بارزاني وهو في موقع نائب رئيس حكومة إقليم كردستان يعمل على بناء خطاب جديد قاعدته أن الحل لا يكون بالقطيعة بل بالشراكة وأن الفيدرالية ليست وسيلة للهروب من الدولة بل وسيلة لحماية وحدة العراق من خلال الاعتراف بحقوق الجميع هذا الخطاب كان جديداً على المشهد السياسي العراقي لأن الساحة كانت منقسمة بين خطاب قومي كردي راديكالي وخطاب مركزي متوجس لكن الرجل اختار طريقاً ثالثاً أقل ضجيجاً وأكثر هدوءاً.
ومع مرور السنوات وبالتحديد بعد تسلمه رئاسة حكومة الإقليم في 2006 بدأ ينفذ عملياً سياسة تقوم على مد الجسور مع بغداد ومع المكونات العربية والشيعية والسنية فهو لم يتوقف عند حدود الملفات المالية والنفطية التي كانت السبب الأول لكل الأزمات بل انتقل إلى مساحات أوسع تتعلق بإعادة بناء الثقة وإيجاد لغة مشتركة تحافظ على المصالح المشتركة وفي كل مرة كان التوتر يرتفع كان هو الحاضر لفتح قنوات التفاوض خلف الأبواب المغلقة أو أمام الكاميرات ليؤكد أن الحوار خيار استراتيجي وليس خياراً تكتيكياً ولهذا السبب أصبح اسمه يتردد حتى في الأوساط العربية والخليجية والدولية كوجه قادر على التعامل مع الجميع.
وبعد ازمة داعش في 2014 التي كانت لحظة اختبار لكل السياسيين هناك في تلك اللحظة برز دور نيجيرفان بارزاني بشكل لافت فقد وجد نفسه أمام أزمة مركبة، أزمة إنسانية وأمنية واقتصادية وسياسية لكنه تعامل معها من زاويتين الأولى أن كردستان جزء من العراق وأن حماية أربيل لا تنفصل عن حماية بغداد والموصل وكركوك والثانية أن العلاقات مع المجتمع الدولي يجب أن تستخدم كجسر لإنقاذ العراق كله وليس كأداة لفرض أمر واقع لصالح الإقليم ولهذا السبب انفتحت عواصم كبرى مثل واشنطن وبرلين وباريس على الإقليم ليس لكونه يطالب بالاستقلال بل لأنه يقدم نفسه بوصفه شريكاً مسؤولاً يعمل على تثبيت الاستقرار وإدارة الأزمة بحكمة.
وفي تلك السنوات الصعبة ظهر الوجه العملي لسياسة نيجيرفان بارزاني إذ استطاع الإقليم أن يستقبل أكثر من مليون ونصف نازح من المحافظات العراقية المختلفة وأن يوفر لهم الملاذ الآمن رغم الأزمة المالية التي كانت تخنق الإقليم وقد حول هذه القضية الإنسانية إلى نقطة التقاء مع بغداد ومع العالم ليقول إن الكرد يمكن أن يكونوا جزءاً من الحل في العراق لا جزءاً من المشكلة وبذلك تعززت صورته كرجل يتعامل مع القضايا الإنسانية والسياسية بعقلية الدولة وليس بعقلية الحزب أو القومية الضيقة.
فنيجيرفان بارزاني يحسن صناعة الرجل العامل في السلام للسلام بالسلام كما احب أن اصفه.
وهذا النهج استمر بعد هزيمة داعش فعندما تراجعت قوات البيشمركة إثر أحداث كركوك في 2017 واشتدت الأزمة بين بغداد وأربيل بعد الاستفتاء، لم يدخل نيجيرفان في صراع مفتوح بل اختار طاولة المفاوضات وفتح باب الحوار مع الحكومة الاتحادية وكان يردد باستمرار: أن الكرد لن يتمكنوا من العيش بسلام إذا كان العراق ممزقاً وأن أربيل تحتاج إلى بغداد كما تحتاج بغداد إلى أربيل.
هذه الرسالة البسيطة والعميقة في آن واحد جعلته محاوراً موثوقاً حتى عند خصومه السياسيين ولعل التحول الأهم في صورته السياسية حدث بعد انتخابه رئيساً لإقليم كردستان عام 2019 إذ أصبح مسؤولاً ليس عن حكومة محلية فحسب بل عن موقع رمزي يمثل كل الكرد وفي الوقت نفسه صار عنواناً للعلاقة بين الإقليم والدولة الاتحادية في الداخل والخارج وقد استثمر هذا الموقع لبناء سياسة أكثر هدوءاً وأقل شعارات تقوم على رؤية استراتيجية ترى أن الاستقرار الداخلي للعراق هو المدخل الوحيد لأي استقرار إقليمي ولهذا بدأ يتنقل بين العواصم العربية والإقليمية مقدماً نفسه ليس ممثلاً لحزب أو لجهة بل ممثلاً لعراق يريد أن يستعيد مكانته الطبيعية.
وزياراته لبرلين وفرنسا وانطاليا والاردن والخليج وايران جزء من ذلك،
فدبلوماسيته الهادئة جعلته مقبولاً من الدول العربية الكبيرة التي كانت تنظر إلى الملف الكردي بريبة ففي كل لقاء كان يركز على أن العراق دولة واحدة متعددة المكونات وأن قوة الكرد تأتي من قوة العراق ككل وأن النزاع ليس خياراً بل التعاون والاندماج هما السبيل إلى مصلحة الجميع ولذلك كانت أبواب الرياض وأبوظبي وعمان والقاهرة وحتى طهران وأنقرة مفتوحة له لأنه كان يقدم خطاباً مغايراً يعتمد على الاقتصاد المشترك والمصالح الأمنية المتبادلة بدلاً من لغة الصراع والانفصال،وعلى الصعيد الدولي تعامل مع العواصم الغربية على أساس الشريك العقلاني الذي يفهم تعقيدات المنطقة ويريد حلولاً وليس تصعيداً فكانت دعواته المتكررة إلى دعم الاقتصاد العراقي وتطوير البنية التحتية وتشجيع الاستثمار في جميع مناطق العراق وليس فقط في الإقليم جزءاً من صورة رجل دولة يتحدث بلغة المصالح الشاملة لا المصالح الجزئية الضيقة حتى أنه في كل مناسبة كان يصر على أن العراقيين جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات ولا يمكن أن تقوم تجربة كردية مستقرة إذا لم يكن العراق مستقراً بالكامل.
ومن الناحية الاستراتيجية يمكن القول إن نيجيرفان بارزاني بنى دوره على أربعة مرتكزات الأول أنه يرى نفسه عراقياً قبل أن يكون كردياً فهو لم يتردد في القول إن العراق وطنه وإن الدفاع عن بغداد جزء من الدفاع عن أربيل الثاني أنه يؤمن بالتعددية وبالعيش المشترك ويرى أن الفيدرالية وسيلة للبقاء معاً لا وسيلة للانفصال الثالث أنه يتعامل مع الحوار السياسي كأداة دائمة وليست ظرفية ولذلك لم يتوقف عن التفاوض حتى في أصعب المراحل وأشدها توتراً والرابع أنه استطاع تحويل العلاقات الدولية من مصدر ضغط إلى مصدر دعم للاستقرار الداخلي.
من الأمثلة البارزة على نجاح هذا النهج قدرته على لعب دور الوسيط في قضايا حساسة مع تركيا إذ لم تكن علاقاته مع أنقرة مجرد علاقات تجارية بل تحولت إلى قناة للتفاهمات الأمنية التي حدت من التوتر بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني في مناطق حدودية قبل القاء البي كي كي السلاح بأمر من اوجلان وبدء نهاية حربهم مع تركيا، فمارس الوساطةوهذه مهمة معقدة لم يكن يستطيع القيام بها إلا طرف يمتلك ثقة الطرفين وبالوقت نفسه حافظ على علاقة مقبولة مع إيران قبل وبعد حرب الاثني عشر يوما. وتمكن من التحدث مع قياداتها بوضوح عن أهمية احترام السيادة العراقية وعدم الانجرار إلى حروب جديدة داخل الأراضي العراقية وعدم جعل العراق جزءا من الحرب الحالية التي لا زالت مخمدة ولم تنطفيء .
وفي داخل العراق صار نيجيرفان بارزاني واحداً من الشخصيات القليلة التي تقف في الوسط بين الأطراف الشيعية والسنية والكردية فهو يحضر في بغداد بانتظام ويلتقي كل القوى السياسية ويلعب دوراً تفاوضيا سلميا في الأزمات وقد ظهر ذلك في أكثر من محطة كان آخرها حول رواتب الاقليم، عندما كاد العراق ينزلق إلى صراع المركز والاقليم سياسيا وقضائيا، لكنه تحرك بصمت بين القيادات في بغداد ليقنع الجميع بضرورة القبول بالحلول التوافقية التي تمنع انهيار الدولة والاقليم.
ونجح ايما نجاح.
هذا الدور المزدوج جعله في نظر كثيرين سفيراً للسلام العراقي الكردي لأنه يجمع بين العمق العراقي والجذور الكردية ويمثل نموذجاً لسياسي يدرك أن قوته الحقيقية لا تأتي من الانحياز لطرف ضد طرف آخر بل من البحث عن معادلة تحافظ على التوازن في بلد معقد التركيب مثل العراق وفي منطقة مضطربة مثل الشرق الأوسط.
وفي السنوات الأخيرة صار الحديث عن نيجيرفان بارزاني لا يقتصر على الساحة العراقية بل امتد إلى دوائر النقاش الدولية التي ترى فيه نموذجاً لقيادة شرق أوسطية تضع التنمية والاستقرار فوق الاعتبارات الأيديولوجية ولهذا السبب تتم دعوته بشكل متكرر للمؤتمرات والمنتديات التي تبحث عن حلول للصراعات المزمنة في المنطقة لأنه يمثل تجربة سياسية عملية يمكن البناء عليها.
ما يميزه أكثر أنه لا يكتفي بالخطابات بل يدعم رؤيته بمشاريع اقتصادية واستثمارية يعتقد أنها الطريق الواقعي لخفض مستوى التوتر الاجتماعي والسياسي فهو يكرر دائماً أن البطالة والفقر والفساد هي البيئة التي تنشأ فيها الصراعات الطائفية والقومية ولذلك فإن بناء اقتصاد قوي يخلق فرص العمل ويعطي الناس أملاً في المستقبل سيقلل من احتمالية اللجوء إلى العنف ولهذا فإن سياسته تقوم على ربط الاستقرار السياسي بالاستقرار الاقتصادي.
رغم أن المشهد العراقي لا يزال مليئاً بالتحديات وأن الخلافات بين بغداد وأربيل لم تنته بعد إلا أن ما فعله نيجيرفان بارزاني خلال العقدين الماضيين أوجد مساحة أمل بأن هناك قيادة كردية تحمل خطاباً عراقياً ولأن هناك وجهاً عراقياً يتحدث بلسان عربي وكردي في آن واحد ويستطيع أن يكون مقبولاً في بغداد وأربيل كما هو مقبول في العواصم الإقليمية والدولية.
صورة نيجيرفان بارزاني اليوم ليست صورة الزعيم المحلي أو رئيس الحزب بل صورة رجل دولة عراقي عراقي يتعامل مع كل الملفات بأفق واسع يجمع بين الواقعية السياسية والحس الإنساني وبذلك يمكن القول إن التجربة التي يمثلها نيجيرفان تعطي نموذجاً لقيادة تسعى إلى تثبيت السلام وتغليب منطق الحوار في بلد أنهكته الحروب والانقسامات.
ويبقى السؤال أمام العراقيين والكرد والعالم كيف يمكن تحويل هذا النموذج الفردي إلى قاعدة عامة في السياسة العراقية ؟وهل يمكن أن تكون رؤية نيجيرفان بارزاني لبناء دولة عراقية مستقرة ومتوازنة نقطة انطلاق لمشروع وطني شامل يتجاوز الصراعات الضيقة ؟
الوقت من سيجيب عن هذا لكن المؤكد أن الرجل استطاع خلال سنوات عمله أن يكون رمزاً لسفير سلام يحمل الهوية العراقية والكردية معاً دون أن يتناقض مع أي منهما.
وهو الذي طالما ابرز في خطابه السياسي والاجتماعي والقومي يرا وعلنا:" انا عراقي قبل ان اكون كرديا".
::::
:::