هكذا نحافظ على النظام العالمي... لكن لماذا؟
يطرح كابلان في كتابه الجديد بحسب ما يكتب جون إيكنبيري في استعراضه (فورين أفيرز - 2025) "رؤية سوداوية لعالم يمر باضطراب سياسي مستمر"، ويستعير كابلان عنوان كتابه من قصيدة "تي أس إليوت" الشهيرة عن انهيار الحضارة في غداة الحرب العالمية الأولى، ويرى أن الفترة المعاصرة لحظة مماثلة تضمحل فيها الأسس المؤسسية السياسية للنظام سواء داخل الدول أو في ما بينها.

في وقت يتعرض فيه النظام العالمي الراهن لانتقادات حادة من رؤساء دول وحركاتوكتاب ومفكرين داخل آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية وغيرها، وخلال وقت تظهر فيهتجمعات وتكتلات تطمح إلى زعزعة هذا النظام وتغييره واستبدال ما هو أفضل منه به،أو ترمي إلى ترشيده وتوجيهه إلى مزيد من العدالة، ثمة بالطبع، من يستميتون فيالدفاع عنه من رؤساء دول وكتاب ومفكرين ومنظمات. وينضم إلى جهود الدفاع عنالوضع القائم الصحافي الأميركي روبرت دي كابلان بكتابه الصادر أخيراً عن دار"هيرست" في نحو 240 صفحة وتحت عنوان "الأرض الخراب: عالم في أزمة دائمة".
كان روبرت كابلان من أشد الصحافيين الأميركيين التزاماً بدعم حرب العراق، ثم رافقالقوات الأميركية في الفلوجة عام 2004، فشهد "ما هو أسوأ حتى من طغيان صدامحسين الغاشم، أي فوضى حرب يخوضها الجميع ضد الجميع" على حد قول جايسونكاولي (ذا تايمز- 19 يناير ’كانون الثاني‘ 2025). وخلص كابلان من مشاهدته للطائفيةإذ تمزق العراق إلى أنه أخطأ التقدير في شأن حلم الميلاد الديمقراطي الذي أعتقد أنهسيتبع تغيير النظام وانهيار الدولة البعثية، "فالنتيجة التي توقعها لم تتحقق"، إذ تبينتمن خلف الطغيان في العراق فراغات مؤسسية كاملة وتمثل "خطأ" كابلان على حدتعبيره، في أن تفكيره في عراق ما بعد صدام لم يكن مأسوياً بالقدر الكافي. فلما أدركخطأه أصابه اكتئاب سريري وندم "أثقل نومي لعقود" بعد ذلك. وكتب كابلان عنصراعاته مع الصحة العقلية وإخفاقات سياسة التدخل الليبرالية الغربية التي وسمتأعوام حكم بوش الابن وبلير في كتاب "العقل المأسوي" الذي صدر عام 2023،ويذهب فيه إلى أن التشاؤمية قد تكون بناءة فتساعد الدول على اجتناب الكوارث. أماما لم يقله كابلان لكنه واضح من كتاب "العقل المأسوي" فهو أن "خطأه" ذلك جعلمنه كاتباً أفضل، فهو أشد حذراً وتواضعاً وشكاً في ذاته.
غير أن كابلان مثلما يتبين من "الأرض الخراب" خرج من حرب العراق بأسوأ درس يمكناستخلاصه، إذ بات يرى "أن النظام لا بد أن يعلو على الحرية" لأنه "في غياب النظام لاحرية لأحد". ويكتب كاولي أن كل من قرأ كتاب "اللفياثان" لتوماس هوبز يعرف أنهدونما نظام يفرضه صاحب السلطان بالتراضي لا وجود "للفن أو الآداب أو المجتمعوهذا هو أسوأ ما في الأمر، إلا لحال مستمرة من الخوف وخطر العنف والموت، ولحياةالإنسان في عزلة وفقر وبغض ووحشية وقصر". هي إذاً حجة كل طاغية، إما أنا أوالفوضى، ولكنها تأتي للمفارقة المريرة على لسان كاتب.
وليس خوف كابلان من الفوضى بجديد عليه فقد برز اسمه كما يكتب كاولي بمقالة"مجيء الفوضى التي نشرها في مجلة "ذي أتلانتيك" عام 1994 ثم توسع فيها فصارتكتاباً، وباتت "بصيرة القلق" بحسب تعبيره، هي مصدر إلهامه "إذ سبق كثيراً من الكتابإلى القول إن تغير المناخ ونقص المياه وندرة الموارد وزيادة السكان وتنامي التمدنوالمرض والهجرة الجماعية ستزعزع استقرار عالمنا خلال القرن الـ21. فلم يكن كابلانممن آمنوا بأننا وصلنا إلى نهاية التاريخ، ناهيكم بأن نهاية الحرب الباردة تبشر بعصرسيطرة لليبرالية الغربية والسلام العالمي، فقد رأى الفوضى آتية وأصابه الخوف منجراء ذلك".
لذلك، يطرح كابلان في كتابه الجديد بحسب ما يكتب جون إيكنبيري في استعراضه(فورين أفيرز - 2025) "رؤية سوداوية لعالم يمر باضطراب سياسي مستمر"، ويستعيركابلان عنوان كتابه من قصيدة "تي أس إليوت" الشهيرة عن انهيار الحضارة في غداةالحرب العالمية الأولى، ويرى أن الفترة المعاصرة لحظة مماثلة تضمحل فيها الأسسالمؤسسية السياسية للنظام سواء داخل الدول أو في ما بينها. وفي ثيمة تتردد في شتىكتاباته يذهب كابلان إلى أن الفوضى -من العصور القديمة إلى الحديثة- تنحو إلىالانتشار حينما تختفي الهيراركية، ممثلة في النظامين الملكي والإمبراطوري وغيرهمامن صور الهيمنة السياسية، فتنشأ فراغات في السلطة السياسية الشرعية سرعان ماتمتلئ بالفوضى والصراع. ولقد ماتت أنظمة الماضي الإمبراطورية والسيادية خلالالقرن الـ20 بحربين عالميتين. وخلال القرن الراهن تمثل الصين وروسيا والولاياتالمتحدة آخر القوى الإمبراطورية الباقية، وكل هذه الإمبراطوريات تنحدر بطرقمختلفة، منذرة بحلول عصر ما بعد حديث قوامه الفوضى والاختلال. ويستحضر كابلانالفيلسوف الألماني أوزفالد شبنغلر وكتابه "انحدار الغرب"، في لومه للقوى التي تدمرالحداثة الليبرالية وتؤدي إلى اضمحلال وظائف النظام القديم المحققة للاستقرار،مهددة بتحويل العالم إلى أرض خراب باسم التقدم.
ومصداقاً لذلك يكتب روبرت كابلان أن "العالم يقف على حافة هاوية، فالولاياتالمتحدة هي التي أنقذت الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية في الحرب العالمية الثانيةوالحرب الباردة، ولكنها آنذاك كانت مسؤولة عن نصف التصنيع العالمي بينما هي الآنمسؤولة عن قرابة 16 في المئة فقط منه. ويبلغ إجمال دين أميركا القومي 36 تريليوندولار، ويزيد هذا الدين بمقدار تريليون دولار سنوياً. ولا يبدو أن الديمقراطيين أوالجمهوريين ينعمون ولو بالقدر الأدنى من الانضباط الذاتي المطلوب لوقف هذهالنزاعات، ومثل هذه الأعباء والتعقيدات المالية كانت العامل في تراجع القوى العظمىوالإمبراطوريات في الماضي، وانظروا إلى روما وإسبانيا في مطلع العصر الحديث،والإمبراطورية النمسوية المجرية وبريطانيا. وهذا كله مهم للغاية لأن القوى العظمىعلى مر التاريخ، راق لنا ذلك أم لم يرق، هي التي حافظت على مظهر النظام العالمي. وبضعفها، تتسلل الفوضى لا محالة. وهذه هي الخطوط العريضة التي شكلتالانتخابات الأميركية الأخيرة محض حلقة واحدة منها".
ويكتب كاولي أن كابلان يبدأ كتابه بالرجوع "على سبيل التحذير" إلى ألمانيا في عهدجمهورية "فايمار"، وهي الجمهورية التي نشأت في ألمانيا خلال الفترة من 1919 إلى1933 نتيجة خسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وكانت "المهد الذي أنتجالفاشية والشمولية". ويمضي كاولي فيكتب أن كابلان يعتقد أن انهيار الدولة الألمانيةما بعد الإمبراطورية وصعود هتلر يمثلان درسين مهمين للعالم المضطرب اليوم. ويرى،في ما أعتقد، أننا لا ينبغي أن نتوقع المستقبل القريب أن يكون شبيهاً بالماضي أوالحاضر "فعلينا أن نضع في الحسبان أن أي شيء تقريباً يمكن أن يحدث لنا"، وذلك هونتيجة تأمله للتجربة الألمانية في ما بين الحربين، وهذه هي الفائدة التي نغتنمها من"فايمار" التي "لم يكن بها حارس يحافظ على السلام بين أجزائها".
"لا بد إذاً من حارس يفتقر إليه نظامنا متعدد الأقطاب اليوم الذي يتداعى فيه ما يعرفبالنظام الدولي القائم على القواعد، في ظل تعهد إدارة دونالد ترمب الجديدة بالنزوعإلى الانعزالية، واضطرار الدول الأوروبية الآن أو عما قريب إلى مزيد من الإنفاق علىأمنها، وازدياد نجاعة وسائل الاتصال في العالم بما يجعل الصراعات تزداد مأسوية، فلميحدث إلا نادراً أن كانت السياسات وعواقبها تجري بهذا الاحتدام على نطاق الكوكبكله".
غير أن برونو ماسياس يطعن في حجة "فايمار" هذه فيكتب في استعراضه للكتاب (ذانيو ستيتسمان - 22 يناير 2025) أن جمهورية "فايمار" الألمانية كانت دائماً ذخيرةحجاجية للمحافظين من شتى الأنواع، إذ يجعلونها عبرة "للمجتمع إذ يغفل عن حاجتهإلى النظام وقوة الدولة فيكون مصيره أن تحل عليه سلطة دولة في أكثر صورها انتقاماً وقسوة".
أحمد شافعي