فلسفة التاريخ الكردي وتدوينه.

خاص لموقع hiwar / المؤرخ: السيد احمد عبد الكريم عبد الجبار النعيمي الرفاعي الحسيني.*:التاريخ الكردي ليس مجرد سردٍ للأحداث، بل هو انعكاس لصراع طويل من أجل الوجود والهوية. فلسفة هذا التاريخ تتجلى في ثنائية المقاومة والتكيف، حيث يبرز الكرد كشعب عاش بين إمبراطوريات متصارعة لكنه لم يذُب في أي منها. إن تدوين التاريخ الكردي كان دائماً محفوفاً بالصعوبات، نظراً لافتقاره إلى دولة مركزية على مدى قرون، وهو ما جعل السرد التاريخي للكرد غالباً معتمداً على روايات الآخرين، سواء كانوا أعداء أو حلفاء. الحضارات الكبرى مثل العربية، والاسلامية، قامت ب: دمج الكرد أو وضعهم، لكنهم احتفظوا بخصوصيتهم الثقافية رغم التحولات السياسية والجغرافية. هذه القدرة على البقاء دون الذوبان تعكس جوهر فلسفة التاريخ الكردي، حيث لم يكن الهدف بناء إمبراطوريات، بل الحفاظ على الذات والاستقلالية في ظل توازن القوى المتغيرة.

فلسفة التاريخ الكردي وتدوينه.

في فترات مختلفة، لم يكن للكرد مشروع قومي موحد، وإنما تجسدت هويتهم في إمارات مثل بابان، بهدينان، وسوران، التي وفرت نماذج للحكم الذاتي داخل كيانات أكبر. هذه النماذج تعكس وعياً تاريخياً بأن القوة لا تكمن دائماً في السيطرة، بل في القدرة على الاستمرار والحفاظ على النسيج الاجتماعي والثقافي.

لم يكن التاريخ الكردي يُدوّن من قبل مؤرخين كرد بشكل ممنهج إلا في مراحل متأخرة. يعود ذلك إلى عدة أسباب:

غياب الدولة القومية الكردية، مما جعل التاريخ يُكتب بأقلام القوى المهيمنة التي غالباً ما قللت من دور الكرد أو صورته بشكل مشوه.

الطبيعة الشفاهية للثقافة الكردية، حيث لعبت الملاحم الشعبية مثل “مم وزين” و”درويش عبدي” دوراً في حفظ الذاكرة التاريخية.

والشاهد هاهنا هو الشرف نامة للبدليسي.

تشتت الكرد بين دول عدة، مما جعل توثيق الأحداث يتبع الأجندات القومية لتلك الدول بدلاً من السرد الكردي المستقل.

مع ذلك، حاول مؤرخون كرد مثل شرف خان البدليسي في “شرفنامه” تقديم رؤية كردية للتاريخ، لكن هذا لم يتحول إلى تيار مؤسسي في تدوين التاريخ حتى العصر الحديث، حيث بدأ ظهور مؤرخين وباحثين يعيدون قراءة التاريخ الكردي من منظور داخلي، مستقل عن السرديات الرسمية للدول المسيطرة..

إذا كان التاريخ عند الشعوب الأخرى غالباً ما يتمحور حول بناء الإمبراطوريات أو الثورات الكبرى، فإن التاريخ الكردي يتمحور حول جدلية الصراع والتكيف. فالكرد في بعض المراحل تبنّوا سياسات المواجهة المباشرة، كما في ثورات الشيخ عبيد الله النهري أو ثورة الشيخ سعيد بيران، وفي مراحل أخرى اعتمدوا قيادة حركة التحرر الكردية، كما فعل البرزانيون في علاقتهم مع ثورتهم لأجل وضع كوردستان موضعها، خلال القرن العشرين.

هذه الفلسفة لا تعني غياب الإرادة السياسية، بل تعكس وعياً بحدود القوة وإمكانيات الواقع. فالطبيعة الجبلية للمناطق الكردية لعبت دوراً في تشكيل نمط سياسي يعتمد على التحصين والاستقلال الذاتي بدلاً من السيطرة المباشرة على مساحات شاسعة.

في العصر الحديث، بدأ الكرد يتعاملون مع تاريخهم كقوة سياسية ومعرفية، فالتدوين لم يعد مجرد تسجيل للأحداث، بل بات جزءاً من بناء الهوية القومية. مع ظهور المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية الكردية، بدأ التاريخ يُكتب برؤية كردية لا تكتفي برد الفعل على السرديات المفروضة، بل تطرح قراءة تحليلية تضع الكرد في مركز الأحداث، وليس على هامشها.

يبقى التحدي الأكبر هو تجاوز الانقسامات الداخلية التي لطالما أثرت على وحدة المشروع الكردي. فالتاريخ أظهر أن الكرد نجحوا في المقاومة والصمود، لكنهم لم ينجحوا دائماً في بناء مشروع فلسفة تاريخ موحد.

التاريخ الكردي ليس مجرد سلسلة من الثورات أو الانشاءات، بل هو نموذج لصمود شعب يواجه تحديات الاندماج والطمس منذ قرون، ومع ذلك يستمر.

فلسفة هذا التاريخ تكمن في المرونة والقدرة على إعادة تشكيل الذات وفقاً للظروف دون فقدان الهوية. التدوين التاريخي اليوم هو الخطوة الأولى نحو تحويل الذاكرة إلى أداة سياسية لبناء مستقبل مختلف.

*المؤرخ: السيد احمد عبد الكريم عبد الجبار النعيمي الرفاعي الحسيني: كاتب ومؤرخ ومحقق وثبت، له عشر مؤلفات في التاريخ والتراجم وتحقيق النصوص، عمله القادم :" الرفاعية والمغول" كتاب في توثيق العلاقات الاسلامية الحضارية.

*