لا يجوز مخاطبة القارئ كما لو كان تلميذاً

التشبيه القديم للناقد بأنه فاحص للذهب يظلّ ملائماً في كل العصور

سبتمبر 24, 2025 - 10:07
لا يجوز مخاطبة القارئ كما لو كان تلميذاً

وجّه صحافيّ إلى الكاتبة الأميركيّة جومبا لاهيري، الفائزة بجائزة بولتزر للأدب القصصي في عام 2000، سؤالاً عن نوع القصّة التي تميل إلى قراءتها، وأيّها تنأى بنفسها عنها، وكان جوابها: «تجذبني أيّ قصة تجعلني أريد أن أقرأ الجملة تلو الأخرى، وليس لديّ أيّ معيار آخر». أعطت الكاتبة وصفاً مختصراً لما يمكن أن ندعوه بالتلذّذ الجارف بالسرد، يخطفنا من واقعنا الراهن إلى وجود مختلف له زمنه الخاصّ، نتخلص عبره من شكلنا المتاح للآخرين ولنا قبل قراءتنا للرواية، بعد ذلك نغدو بملامح غير ما في وجوهنا، وتجري في عروقنا دماء جديدة وعنيفة تتجدّد بواسطتها الحياة، وتتضاعف، وتصير أكثر، وما يتبع ذلك من وعي مكثف بالوجود، ومناعة ذاتية ضدّ الجهل والاعتقاد بالخرافات.

لا تحتاج قراءة الكتب الممتعة إلى جوّ مثالي، قرأ بورخيس رواية دون كيخوته في الباص الذي كان يقلّه إلى العمل، وأنهت إيزابيل الليندي وهي صبيّة كتاب ألف ليلة وليلة داخل خزانة مع مصباح يدوي. الكاتب إذن هو الذي يصنع للقارئ الجوّ المثالي في السعادة أو التعاسة. وهم يُنجزون أعمالهم، هل يمتلك أدباؤنا هاجس إبقاء ديمومة الاتصال مع القارئ، وخلق الآصرة التي لا تفتر وتتراخى منذ الصفحة الأولى في الكتاب، حتى الأخيرة؟ يُقال عن الناشر الراحل رياض الريس إنه كان يرفع هذا الشعار على كل كتاب يقوم بنشره: «نصف ما يُطبع من الكتب لا يُشترى، ونصف ما يُشترى لا يُقرأ، ونصف ما يُقرأ لا يُفهم».

ليس القاصّ فيلسوفاً، فغرضه الأول والأخير هو تشييد عمله الفني الذي يكشف جزءاً مجهولاً من الوجود. أهمّ ما في الأمر هو أن يكون العمل الأدبي غير شخصيّ، ويقوم به الكاتب بشكل منظّم ومتأنٍّ وهادئ، تشبه طريقة الأشجار العالية في تركيب جذوعها البالغة المتانة. عن مارسيل بروست: «إذا أراد الكاتب أن يقدّم عملاً روائياً فاشلاً، اختار له موضوعاً فلسفياً كبيراً». الرواية قطعة موسيقية ولا وجود لشيء اسمه الحبكة، أقوى الحبكات موجودة في أفشل الأعمال القصصية أحياناً. يُنهي القارئ الرواية الأقرب إلى قلبه مثلما يغادر حفلاً من عزف البلابل، فهو يحمل معه عذوبة الأصوات واكتمال صفة النشيد فيها، وقد تسربت من خلال مسامات جسده، وها هي تجري في عروقه وتصيّره إنساناً آخر، وهذا هو مبدأ التطهير الذي تكلم به معلمنا الأول، أرسطو.

لو فكّرنا بطبيعة التأليف الأدبي - والإبداع الفنّي بصورة عامة - على أنه ليس عملاً ذهنياً أو عضليّاً يقوم به الفنّان، وإنما هو جزء من ذاته سوف تظهر للعيان. بعبارة أقصر هو صفة للفنّان، وعمل الناقد هو تمثّلها وتوقيرها بالطريقة الملائمة. قُلْ لي ماذا تأكل وتشرب وترتدي من ثياب أقل لك من أنتَ... وقُل لي من هي امرأتك أعرف نوع أحلامك، وإذا كنت من ساكني حارة الأدب، فخبّرني عن الناقد الذي تأمن أفكاره، أقل لك كيف ستكون صورتك بعد عقد أو عقدين من السنين، وهل ينظر إليك دارسو الأدب على أنك أحد الأسماء المكرّسة للبقاء طويلاً.

الأمر الأهمّ في الرواية «أنها تظلّ بعيدة من أن تكون عديمة القيمة» العبارة لسومرست موم. كتب فاضل السلطاني في هذه الصحيفة قبل نحو سنة، مقالاً حول عزوف العالم عن قراءة الأدب العربي، خصوصاً الرواية، وهذه حقيقة واقعة يجب علينا الاعتراف بها. بطبيعة الحال لا يستطيع الناقد خلق مواهب عظيمة في فن السرد، لكن أحد أسباب انخفاض مستواه في بلادنا يعود إلى ما يمكن وصفه بنقد العلماء، على نسق ما كان يُعرف سابقاً بشعر العلماء، أي المتأدبين المشتغلين في التعليم والبحث، حيث تكاد تفتقر قصائدهم إلى لون الشعر وطعمه ورائحته. النقد الأدبي لا يلعبُ بالنرد، كنتُ جمعتُ ستة شروط يجب توفرها فيمن يقوم بدراسة الأدب وتقييمه وتهذيبه:

العمر: لا تكتمل عدة النقد قبل العقد الخامس أو السادس.

الشخصية: هناك قصص عجيبة وغريبة عن شعراء صعاليك وكتّاب قصة يتيهون في الشوارع والدروب، وهذا الأمر لا يصحّ مطلقاً مع شخص الناقد في بحور الأدب.

الثقافة: أقلّ ما يمكن عمله في سبيل النبوغ في هذا المجال هو أن يعطي الدارس ثلثي عمره للاطلاع عن كثب على مختلف صنوف المعرفة والأدب والفن.

الذوق الفني: قراءة كتب الأدب من دون تربية متواصلة للذوق تشبه ما يقوم به السجناء في أعمالهم الشاقة، أي نقل الأحجار من مكان إلى آخر، ومن ثم العودة بها إلى مكانها الأول.

الموهبة: وهي الشرط الأهم والأساس الذي لا يمكن في حالة غيابه توفر مادة الإبداع في النقد. قالت العرب: «العالمون في الشعر أندر من الكبريت الأحمر». يكفي، لغرض الإشارة إلى ندرة هذا الشرط، القول إن الغالبية العظمى من النقد الذي يُكتب بلغة الضاد هو من صنف نقد العلماء، أي عبارة عن كتلة من الفراغ لها طول، لكنها تفتقر إلى العرض والعمق، وبالتالي القدرة على المطاولة وتحدي الزمن.

الشرط السادس والأخير يخصّ أساتذة الجامعة فقط. في سبيل أن يكونوا فنانين في حقل النقد، يجب أن يخلعوا بدلاتهم التي تتشابه في اللون والنسيج والقيافة، ويرتدوا بدلاً عنها ثوب الإبداع. في دنيا النقد لا يجوز مخاطبة القارئ كما لو كان تلميذاً جالساً في الصف، مهمته أن يحفظ عن ظهر قلب نظريات وفرضيات ودروساً جاهزة مترجمة عن لغات أخرى، فإن سار عليها وصل، وإلا تاه ورسب وظلّ مراوحاً في مكانه.

"النوع الأخطر من النقد هو الذي يُريد أن يثبت نفسه في إلغاء أو إحياء أعمال أدبية لا تستحقّ الحالتَين"

فئة أخرى من المشتغلين في نقد الأدب عندنا، تضمّ العاجزين في فنونه؛ الشاعر الفاشل يصير ناقداً للشعر، وكذلك السارد والمسرحي، وهناك من تجد لديه كلتا «الحُسنيين»؛ فهو أكاديميّ قحٌّ، وشاعر يبلغ الدرجة الثالثة بالمائة في المائة.

النوع الأخطر من النقد هو الذي يُريد أن يثبت نفسه، في إلغاء أو إحياء أعمال أدبية لا تستحقّ الحالتَين، أي أن مكانتها الحقيقية هي في الضدّ من رأي الناقد. قالوا وما الضير في الأمر، فالأدب في الأول والأخير مسألة ذائقة، وما يلائم «سين» منّا لا يستطعمه بالضرورة «صاد» و«كاف» من الناس. عن عالم اللغويات الألماني فيلهلم فون همبولت (1767ـ1885): «اللغة ليست مجرد مسميات أي ألفاظ بل طاقة، ليست منتجاً مصنوعاً، بل نشاط وطاقة حيوية». النقاش إذن يدور حول طاقة وحياة تخصّان وجودنا، أو عدم يجلب الفناء. التشبيه القديم للناقد بأنه فاحص للذهب يظلّ ملائماً في كل العصور. تزييف الذهب والفضة والحديد يؤدي إلى أن تنقلب الأمور أعلاها سافلها. لو أننا آمنّا بنظرية الفراشة، فإن المآل الذي توصلنا إليه عدم كفاءة النقد لا يمكن تصوّره، بل هو الهرم الواقف على قمّته، بعبارة أخرى هي الصورة التي أشارت إليها مقالة فاضل السلطاني عن الرواية العربية، وهذا يفسر عدم إقبال المترجمين ودور النشر على تناولها.

ما يقوم به الناقد يشبه دور الأب في الأسرة، يراقب ويسأل ويستفسر عن كل شيء، فإن السمعة الحسنة أو السيئة تكون في الأخير من نصيبه. قال نزار قباني: «أنا سعيد الحظ لأني قلت الشعر في زمان مارون عبود». هكذا يزكّي الابن اسم أبيه، ويدعمه ويفتخر به.

النقد لا يلعب النرد، إنما هو موهبة مثل ملكة الرسم والغناء والتمثيل وقول الشعر. لا يستطيع الطائر من غير فصيلة البلابل التغريد مثلهم، وإن نحن أقرأناه ألف سمفونية وألف ألف قصيدة وأغنية ونشيد.

المصدر: الشرق الأوسط