استشراف للدور القادم لإدريس نيجيرفان بارزاني رؤية تحليلية

يواجه إقليم كردستان اليوم جملة من التحديات البنيوية التي لا تقف عند حدود السياسة والاقتصاد، بل تمتد إلى المجتمع والثقافة والبيئة. في قلب هذه التحديات يبرز اسم إدريس نيجيرفان بارزاني، بوصفه شخصية شابة تحاول أن تقدم صورة مغايرة لما اعتاد عليه المشهد السياسي الكردي. الحديث عن دوره لا ينطلق من إنجازات سياسية تقليدية، بل من نشاط مدني وثقافي واجتماعي يكتسب بمرور الوقت طابعاً استراتيجياً، ويطرح سؤالاً أساسياً: هل نحن أمام مشروع قائد جديد، يراكم أدوات تأثيره الناعمة تمهيداً لدور قيادي أكبر في المستقبل؟ وعند قراءة تجربته، لا بد من العودة إلى البيئة التي نشأ فيها. فهو يحمل إرث جده إدريس بارزاني، الذي ارتبط اسمه بالتضحية والعمل الميداني في صفوف البيشمركة، ويستند إلى مدرسة والده نيجيرفان بارزاني الذي عرف بحضوره العملي ومرونته السياسية وسعيه لربط كردستان بالمجتمع الدولي. إدريس يجد نفسه إذن في معادلة معقدة: عليه أن يجسد الاستمرارية مع هذا الإرث العائلي، وفي الوقت نفسه أن يقدم نفسه بصفته وجهاً عصرياً يستجيب لتطلعات جيل مختلف، هو جيل الشباب الكردي الذي يعيش في عالم متصل، منفتح على تجارب القيادة العالمية، ويمتلك طموحات لا عراقية وكردية.

سبتمبر 23, 2025 - 14:45
استشراف للدور القادم لإدريس نيجيرفان بارزاني رؤية تحليلية

من هذه الزاوية يمكن قراءة مبادراته المدنية، مثل مشروع تشجير محيط أربيل بآلاف أشجار الزيتون. هذه المبادرة تبدو للوهلة الأولى نشاطاً بيئياً، لكنها تحمل رسائل أبعد: فهي ربط مباشر بين الأرض والهوية، ومحاولة لغرس فكرة أن التنمية لا تنفصل عن حماية الطبيعة. الشجرة هنا ليست مجرد رمز بيئي، بل أداة سياسية ناعمة تستهدف تشكيل وعي الشباب بضرورة بناء علاقة مستدامة مع محيطهم. إن التركيز على البيئة يضع إدريس في سياق مختلف عن القادة التقليديين الذين ينظرون إلى ملفات البيئة والثقافة باعتبارها ثانوية أمام ملفات النفط والأمن.

وكذلك مبادراته المجتمعية وهي كثيرة وموثقة...

ان المقارنة مع قادة شباب في العالم تكشف أبعاد هذه التجربة. إيمانويل ماكرون في فرنسا قدم نفسه كوجه جديد خارج المؤسسة الحزبية التقليدية، وجاستن ترودو في كندا بنى صورته على خطاب الانفتاح والقيم الليبرالية. في الإقليم نفسه، ينظر البعض إلى تجربة محمد بن سلمان في السعودية كمثال لقائد شاب أعاد صياغة معادلات اقتصادية واجتماعية. إدريس بارزاني يختلف عن هذه النماذج في أنه لا يملك سلطة تنفيذية مباشرة، لكنه يلتقي معها في رهانها على مخاطبة الجيل الجديد واستخدام أدوات غير تقليدية لبناء الشرعية. إنه يحاول أن يرسخ لنفسه موقعاً من خلال الثقافة، العمل المدني، والرمزية البيئية، بدلاً من السلطة السياسية المباشرة.

هذا المسار يحمل دلالات استشرافية. فجيل الشباب في كردستان، الذي يشكل غالبية السكان، يعاني من مشكلات متراكمة: بطالة عالية، ضعف الخدمات، محدودية آفاق العمل ، ما يفتح الباب أمام وجوه شاب تستطيع أن تقدم خطاباً مغايراً. إدريس بارزاني يبدو واعياً لهذه المعادلة، ويسعى إلى بناء علاقة خاصة مع هذا الجيل. وجوده في الفضاء المدني يجعله أقرب إلى لغة الشباب، وأكثر قدرة على محاكاتهم في قضاياهم اليومية، من البيئة والتعليم إلى الثقافة والتكنولوجيا.

لكن السؤال الجوهري يبقى: هل يملك استراتيجية واضحة للتأثير في شباب كردستان والعراق؟ المتابعة الدقيقة لنشاطه توحي بأنه يعتمد على ثلاث أدوات رئيسية. أولاً، الحضور المباشر في المبادرات الميدانية، وهو ما يعزز مصداقيته. ثانياً، التركيز على القضايا ذات الطابع المستقبلي مثل البيئة والتعليم، وهي قضايا تتقاطع مع أولويات الشباب. ثالثاً، توظيف رمزية العائلة البارزانية بطريقة جديدة، إذ لا يكتفي باستدعاء الإرث التاريخي، بل يحاول أن يكيفه مع متطلبات العصر. هذا التداخل بين الرمزية التاريخية والواقعية المدنية قد يشكل قاعدة لاستراتيجية أوسع في المستقبل.

إذا وسعنا الدائرة لننظر إلى الشباب العراقي في الوسط والجنوب، فإن إمكانات تأثير إدريس تظل محدودة في اللحظة الراهنة، لكنه قادر على توظيف أدواته الناعمة لبناء جسور عراقية وكردية فالشباب العراقي عموماً يعيش أزمة ثقة مع الطبقة السياسية التقليدية، ويتطلع إلى وجوه جديدة أكثر قرباً من همومه. إدريس، بخطابه المدني والثقافي، يمكن أن يقدم نفسه كصوت كردي عراقي جامع، يتجاوز الاصطفافات القومية والطائفية. نجاحه في هذا الاتجاه مرهون بقدرته على التواصل مع منظمات شبابية ومدنية في بغداد والنجف والبصرة، وتقديم مبادرات مشتركة تتعلق بالبيئة أو التعليم أو ريادة الأعمال. مثل هذه المبادرات يمكن أن تخلق أرضية لخطاب وطني جديد يعبر عن جيل مختلف.

استشراف مستقبله لا ينفصل عن السياق الإقليمي والدولي. كردستان منطقة محاطة بأزمات، بين ضغوط تركيا وإيران وتعقيدات العلاقة مع بغداد. إدريس، إذا أراد أن يرسخ دوره، عليه أن يجيد استخدام أدوات القوة الناعمة لبناء صورة كردستان الحديثة في الخارج. هنا يمكن أن يستفيد من تجارب مثل تجربة ولي العهد الأردني الأمير الحسين، الذي ركز على التواصل مع الشباب والابتكار والتكنولوجيا لتسويق صورة بلده. إدريس يستطيع أن يلعب دوراً مشابهاً، يقدم فيه كردستان باعتبارها فضاءً للشباب والطاقة المتجددة والثقافة، بدلاً من الصورة النمطية كمنطقة صراع ونفط فقط.

في هذا الإطار، يمكن القول إن الدور القادم لإدريس نيجيرفان بارزاني غدا محسوماً . هو في طور التشكيل، وهو يمتلك عناصر قوة مميزة: الانتماء إلى عائلة ذات ثقل سياسي وتاريخي، والحضور المدني والثقافي المختلف عن السائد، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغة غير تقليدية. التحدي أمامه يتمثل في تحويل هذه العناصر إلى استراتيجية متكاملة، تضع أهدافاً واضحة وتبني تحالفات داخلية وخارجية. إذا نجح في ذلك، فقد يصبح نموذجاً جديداً للقيادة في كردستان والعراق، نموذجاً يستند إلى القوة الناعمة والتأثير الثقافي والاجتماعي، لا فقط إلى السلطة السياسية الصلبة.

إن القراءة الاستشرافية لتجربته تفتح على أكثر من سيناريو. السيناريو الأول أن يستمر في دوره المدني والثقافي دون الانتقال إلى موقع سياسي مباشر الان على الاقل، فيبقى مؤثراً رمزياً لكنه مع النفوذ التنفيذي.

والسيناريو الثاني أن يترجم حضوره المدني إلى منصة سياسية مستقبلية، ما يفتح له الباب نحو دور رسمي.

والسيناريو الثالث أن يُدمج هذا الحضور ضمن منظومة العائلة البارزانية العريقة، فيشكل إضافة نوعية إلى قيادتها التاريخية كمثل اليه.

أي من هذه السيناريوهات سيتحقق يعتمد على خياراته الشخصية، وعلى توازنات الإقليم، وعلى كل تجاوب الشباب  الحالي والمستقبلي مع خطابه.

من  المؤكد أن إدريس نيجيرفان بارزاني نجح حتى الآن في طرح نفسه كحالة شبابية في المشهد الكردي. هو ليس مجرد وريث سياسي، بل وجه يحاول أن يبني سرديته الخاصة من خلال المجتمع والبيئة والثقافة. وفي زمن يبحث فيه الشباب عن رموز جديدة، قد يكون هذا المسار هو الرهان الأكثر ذكاءً. من هنا تأتي أهمية متابعة تطوره بدقة، لأنه قد يرسم ملامح قيادة شبابية من نوع مختلف في كردستان والعراق خلال السنوات المقبلة.

*

بقلم:

طالب كاظم سعداوي

قاسم شفيق الخزعلي

(مجلة ادارة الازمة)