من بغداد إلى برّ الأمان: مسيحيون كتبوا الحياة من جديد في كوردستان

بقلم: لينا بنيامين داود
لم تكن سنوات ما بعد 2003 مجرد تقلبات سياسية في العراق، بل كانت لحظة فاصلة في ذاكرة العائلات المسيحية التي عاشت لقرون في أحياء بغداد. صارت الكنائس تُفجّر، والرسائل الموقعة بـ"أبو فلان" تُطرق بها الأبواب، والخوف ضيفًا لا يغادر. من بين الركام، نهضت حكايات عن الهروب، عن الوداع القاسي للبيوت، عن حقائب لم تسع كل الذاكرة، وعن شمالٍ احتضنهم كأنّه يعرف وجعهم.
في تلك الأيام، لمع اسم سركيس أغاجان كأيقونة دعم مسيحي غير مسبوقة. لم يكن الرجل فقط وزيرًا في حكومة الإقليم، بل كان يملك – كما يصفه البعض – "سلطة روحية"، امتزج فيها قربه من الرئيس مسعود بارزاني بنبضه الصادق مع الناس.
بنيامين توما، أحد الذين التقوا بأغاجان عام 2008، يتذكر بدقة اللحظة: "دخلت إلى مكتبه بصحبة قس من قره قوش. حملنا قائمة بأسماء عشر عائلات تسكن الخيام. لم يأخذ الملف، فقط أمسك الورقة، سأل عن الأحياء، وطلب من سكرتيره تنفيذ خطة إسكان عاجلة. بعد ثلاثة أيام، كانت العائلات داخل منازل مجهّزة بالكامل."
وتم تأسيس مكتب شؤون المسيحيين بدعم مباشر من مجلس الوزراء، ليكون صلة الوصل بين المهجرين والسلطات. شخصيات كنسية ومدنية مثل فادي عمانوئيل، وهو مدرس سابق نزح من الكرادة، عمل في المكتب لتوثيق احتياجات الناس.
ومن القصص البارزة، تلك التي ترويها سعاد أبلحد، ناشطة اجتماعية من بغداد نزحت إلى شقلاوة، حيث التقت بالرئيس مسعود بارزاني في لقاء شعبي عام 2009: "سألنا ماذا ينقصكم؟ لم أتمالك نفسي وقلت: لا نريد أن نُنسى، فقط لا تُطفئوا شموعنا. ابتسم وقال: أنتم أصل العراق، وليس ضيوفه."
بناءً على هذا اللقاء، تم تخصيص منح تعليمية لأبناء المهجّرين، وشُرع ببناء مدرسة سريانية في شقلاوة ما زالت قائمة حتى اليوم.
لم يكن الجميع ضحية فقط، بل نهض كثيرون وتحولوا إلى روافع للمجتمع الجديد: الأب فارس داوود، كاهن نزح من منطقة الميكانيك، أسس مركزًا للرعاية النفسية للأطفال المهجرين في أربيل.
جانيت شمعون، خياطة من بغداد، فتحت مشغلاً صغيرًا في عنكاوا لخياطة ملابس الكنيسة، ثم وسّعت نشاطها حتى أصبحت توفر فرص عمل لعشر نساء مهجرات. رامي صليوا، شاب فقد والده في تفجير كنيسة سيدة النجاة، أصبح لاحقًا مسؤولًا عن أحد مراكز الترجمة للمهجرين في أربيل، وساعد مئات العائلات على تجهيز أوراق الهجرة.
رغم هذا الدعم، لم يكن الطريق مفروشًا بالورود. التحديات كانت كثيرة: البطالة، اختلاف اللهجة، شعور البعض بأنهم "ضيوف طويلو المدة". إلا أن بناء مدارس باللغة السريانية، وافتتاح كنائس جديدة، وازدهار المجتمع المدني المسيحي، صنع فارقًا. بل إن بعض العائلات التي هاجرت لاحقًا إلى أوروبا تركت جزءًا من قلوبها هناك، حيث شعرت للمرة الأولى بعد سنوات بالكرامة والأمان.
ان قصة المسيحيين المهجرين من بغداد إلى كوردستان ليست مجرد فصل من كتاب الحرب، بل هي عنوان فرعي لعراقٍ آخر: عراق الممكن، عراق الأيادي التي لا تُغلق في وجه المستغيث. وسط الحطام، كانت هناك عيون لا تنام، وقلوب تفكّر، وسلطات لم تكن تتحدث فقط، بل كانت تفعل.