وساطة من النوع الرفيع.. نيجيرفان بارزاني يعيد ترتيب أوراق النزاع

يوليو 24, 2025 - 12:29
وساطة من النوع الرفيع.. نيجيرفان بارزاني يعيد ترتيب أوراق النزاع

بقلم: خيري بوزاني

رئيس اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني لا يصرخ في الميادين، بل يهمس في آذان الملوك. إنه مد خيوطاً غير مرئية بين أنقرة تركيا وقسد روجافا، ونسجها من نعومة حرير السياسة المخملية وصبر المراوغة.  

هذه السياسة أوقفت الزحف التركي كما تُوقف النار بقطرة صبر، كما وأقنع واشنطن بأن سوريا ليست رقعة مركزية، بل هي عبارة عن فسيفساء قلبها ينبض بالكورد. اما باريس فهي تشعل شمعتها للقاء لا تُطفئه الرياح، حيث الكلمات أثقل من البنادق.

  رئيس اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني لا يسير على طرفي المعادلة، بل يعيد رسمها، بيده اليمنى يلاطف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وباليسرى يوقّع على احتمالات لا تجرؤ عليها العواصم. هو ليس بوسيطٍ فقط، بل ظلّ العاصفة حين تتنازل الريح عن عنادها.

  الحديث عن نيجيرفان بارزاني ليس توصيفاً لدور سياسي عابر، بل محاولة لالتقاط أثر طيف يمر بين خطوط النار بلا أن تحترق أطرافه. بحسب تقرير "المونيتور" الأميركي، فإن رئيس إقليم كوردستان لم يكن طرفاً ثالثاً في نزاع، بل حارساً لتوازن دقيق، هش، يشبه البيضة على فم أفعى. 

  فتركيا، التي اعتادت أن ترى في قوات سوريا الديمقراطية "قسد" عدواً يُخيف أمنها القومي، بدأت تتريث، لا من باب الحب، بل من نداء نيجيرفان بارزاني الذي يعرف من أين تُمسك أنقرة: من حذرها، من حسابها البارد، من خيط الغاز، من دهاليز المصالح.  

وفي ذات الوقت، لم يكن نيجيرفان بارزاني يكتفي بالهمس عند الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بل كان يطرق بوابة واشنطن، ليرد على خطاب "أحمد الشرع" المركزي بعبارة بسيطة لكنها قوية: سوريا لا تُدار بعصا واحدة، ولا تحكم بقبضة من حديد مصقول من عقود القمع. كان يعرف أن التعدد السوري لا يحتمل "مونوغرافيا سلطوية"، وأن الفسيفساء لا يُعاد ترميمها بمطرقة.  

نيجيرفان بارزاني لا يقدم نفسه نبياً، ولا يطلب هالات، لكنه، كما وصفه التقرير، مفاوض ماهر. لا يعلو صوته، لكنه يُسمع. لا يهدد، لكنه يُخشى. لا يلوح، لكنه يُقرأ بين السطور. أراد أن يضع "قسد" ليس فقط على طاولة التفاوض، بل في قلب المعادلة السورية، شريكاً لا متسوّلاً، جزءاً من الحل لا من العُقد.  

باريس، التي كانت دائماً شغوفة بمسرح الشرق، دخلت على الخط، لا بحسابات استعمارية قديمة، بل كعرّابة لاتفاق قد يغير مشهداً تراكم عليه الرماد. مظلوم عبدي وتوم باراك، كلاهما يحمل ملفاً، لكن الأرواح التي ستحضر الاجتماع لا تُرى: أرواح الشهداء، المدنيين، المدن المحروقة، والقرى المهجورة، وكلها تنتظر قراراً ينزع عنها صفة المؤقت.  

لا يمكن تجاهل البعد الفلسفي في وساطة نيجيرفان بارزاني: رجلٌ كوردستاني، يتوسط في نزاع سوري، بين خصم تركي، وراعٍ أميركي، وتحت عيون فرنسية، ليقنعهم جميعاً أن الهوية لا تُمحى، وأن التعايش لا يُفرَض، بل يُصاغ.  

وهكذا، لا يفاوض نيجيرفان بارزاني من أجل "قسد" وحدها، بل من أجل فكرةٍ، غابت طويلاً عن خرائط الدم: أن يكون للكورد مكان بلا وصاية، بلا قيد، بلا مزاد. أن يصير الحلم الكوردي، ولو جزئياً، حقيقة تمشي على الأرض، حتى لو حافية.

  هذا ليس انتصاراً بعد، لكنه جملة مفيدة في خطاب كان يصر أن يكون كله صراخاً.