القصة التي لم تحكَ.. العقد الذهبي لكوردستان

سبتمبر 23, 2025 - 21:11
القصة التي لم تحكَ.. العقد الذهبي لكوردستان

إعداد وكالة شفق نيوز

في تاريخ كوردستان المعاصر، هناك لحظات لا تُمحى، من جبال شهدت لجوء المقاتلين وأحلام مؤجلة، سهول عبرتها جيوش وخلفت وراءها رائحة البارود، ومدن تحوّلت بين عشية وضحاها من ساحات قتال إلى مساحات للحياة.

وسط هذا المشهد الممزّق بين ماض مثقل بالحروب وحاضر يبحث عن الاستقرار، برز نيجيرفان بارزاني، لا كزعيم صاخب يملأ الساحات، بل كسياسي هادئ صاغ معالم العقد الذهبي في كوردستان عبر خطوات محسوبة، وقرارات لم تُسجّل كلها في دفاتر الإعلام، يدير الخيوط الدقيقة التي صنعت استقرار الإقليم في مرحلة ما بعد 2003، وممهدا لتقوية نفوذ حزبه، الحزب الديمقراطي الكوردستاني (PDK)، داخل الإقليم.

كان العقد الممتد بين 2003 و2013 أقرب إلى مشهد سينمائي طويل، ألوانه زاهية لمشاريع عمرانية وتعليمية وسط ظلال عميقة لصراعات لم تختفِ تمامًا. في هذه المرحلة الحساسة، كان نيجيرفان بارزاني يمارس سياسة تقوم على التوازن أكثر من المواجهة، وعلى الهدوء أكثر من الضجيج. هو الرجل الذي أعاد للإقليم إيقاع الحياة اليومية فيه حيث مدرسة تُفتح بانتظام، طريق يُعبّد ليربط القرى بالمدن، علم قنصلية لدولة جديدة يُرفع على مبنى حديث في أربيل، فهو لم ينجح فقط في الحفاظ على أمن الإقليم، بل عمّق أيضا من حضوره ونفوذه الإقليمي والدولي.

هذه الجهود، وإن لم تحظ باهتمام واف من قبل السياسيين والمحللين، إلا أنها أسهمت بشكل حاسم في استقرار الإقليم ونموه.

ورغم ما فرضته حساسية المرحلة من قيود على التوثيق الإعلامي والتحليل الشامل، تكشف الدراسة المتأنية عن أن نيجيرفان بارزاني كان عنصرا جوهريا في دفع عجلة الاستقرار والتحوّل الإيجابي في كوردستان. إن الوقوف على مثل هذه الأدوار لا يساعد في فهم التاريخ المعاصر فحسب، بل يعمّق إدراكنا لتأثير الأفراد في صناعة مصير الأوطان.

وراء الكواليس، كانت السياسات الاستراتيجية والتفاهمات غير المعلنة والدبلوماسية الهادئة هي المحرّك الأساسي لهذه التحولات. محطات مفصلية لم تُبرزها السجلات التاريخية بما يكفي، لكنها كانت حاسمة في تثبيت الأمن وترسيخ النفوذ.

وفي الوقت الذي ركز فيه السياسيون وأصحاب القرار على الأهداف الأمنية والسياسية، أُهملت الجوانب النقدية والتقييمات الموضوعية، ما أدى إلى تغييب الكثير من النجاحات التي تحققت. وبينما ازدادت حساسية الملفات، وبسبب ضعف التوثيق وشحّ الموارد، لم يُسلّط الضوء على تلك المرحلة ولا سيما فترة حكم نيجيرفان بارزاني من عام 2003 إلى 2013 بالشكل الذي تستحقه.

وتتعدد أسباب هذا التهميش ما بين عوامل سياسية وإعلامية وتاريخية. فوسائل الإعلام، بطبيعتها، تميل لتغطية الأحداث المتأزمة والملفات المثيرة، ما أدى إلى تراجع الاهتمام بتلك المرحلة مع تصاعد التوترات الإقليمية في السنوات التالية. كما أن التنافس السياسي وتوجيه السرديات أدت دورا كبيرا، إذ عمدت بعض الأطراف ووسائل الإعلام التابعة للخصوم إلى تقليل شأن تلك المرحلة أو توجيه سردياتها بطريقة تخدم مصالحها، سواء من خلال تضخيم صورة خصم أو التقليل من شأن إنجازاته.

ولا شك أن من بين أبرز أسباب غياب التوثيق الكامل لتلك الحقبة، السياسات الحكومية ذاتها، التي غفلت عن أهمية التوثيق، ما جعل كثيرا من الإنجازات تُهمّش إعلاميا ورسميا ولا يُسلّط الضوء عليها كما ينبغي.

إن إعادة قراءة تلك المرحلة، ليست ترفًا بحثيًا، بل ضرورة لفهم ما جرى. فهي تكشف عن رجل واجه توازنات صعبة، بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني، وبين بغداد وأربيل، بين مطامح الداخل وضغوط الخارج. فهم شخصيته لا يتوقف عند إنجازاته السياسية، بل يمتد إلى أسلوبه في إدارة الخلافات، وصبره على لعبة الظلّ والضوء التي لا تنتهي.

الكتابة عن نيجيرفان بارزاني هنا هي محاولة لإنصاف التجربة بكل تناقضاتها، نجاحات لم تُحتفَ بها كما يجب، وإخفاقات لم تُقرأ بموضوعية، فمثل هذا الطريق لا يخلو من صعوبات تكشف كل واحدة منها بطريقتها، عن جوانب خفية وأسرار كامنة في شخصية للوصول إلى فهم شامل ويتطلب الغوص في دوافعه وأهدافه، فلكل خطاب نبرة، ولكل حكم سياق. لذا فإن السعي إلى رسم صورة دقيقة وعادلة يتطلب حذرا ومهارة، وخصوصا في واقع تتأرجح فيه نظرة أغلب العراقيين إلى القادة السياسيين بخيبة الأمل.

هذه المقدمة ليست إلا تمهيدا لرحلة طويلة في هذا الملف. رحلة سنسير فيها بين الجذور الأولى في بارزان، وبين الطفرة التعليمية، وبين قاعات التفاوض في أربيل وبغداد، وبين الدبلوماسية التي جعلت من أربيل بوابة مفتوحة للعالم. وكل محطة من هذه الرحلة ستكشف عن وجه آخر لرجل ظلّ يعمل في صمت، لكنه ترك أثراً يصعب محوه من الذاكرة السياسية الحديثة.

الفصل الأول: البدايات والجذور

عند تخوم الجبال التي تتكئ على الغيم وتحيط بها القرى، وُلد نيجيرفان إدريس بارزاني في 21 أيلول/سبتمبر 1966 بقرية بارزان شمالي أربيل. بيئة قاسية في طبيعتها، لكنها وفيّة في ذاكرتها.

لم يكن مولده حدثًا عابرًا في بيت كوردي تقليدي، بل استمرارًا لمسيرة عائلة حملت السياسة كما تحمل الحكايات. فجده مصطفى بارزاني مؤسس الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وأحد أبرز رموز الحركة القومية الكوردية في القرن العشرين، أما والده إدريس بارزاني فكان من القيادات المؤثرة، ومهندسًا لملفات الحرب والسلم.

نشأ نيجيرفان في بيت يشبه غرفة عمليات سياسية أكثر من كونه منزلاً عائليًا. لم تكن أمسياته خالية من النقاشات الحادة حول المفاوضات مع بغداد، أو الاستراتيجيات العسكرية، أو توازنات العشائر. هناك، تعلّم باكرًا قيمة الصمت التحليلي، يستمع أكثر مما يتحدث، يراقب بعين فاحصة، ويختزن في ذاكرته الصغيرة تفاصيل كبرى شكّلت وعي جيله.

حين انهارت الحركة الكوردية بعد اتفاقية الجزائر 1975، تجرّعت العائلة مرارة المنفى. لجأت إلى إيران، وهناك، بين أحياء مدينة كرج في ضواحي طهران والمناطق التي يسكنها الكورد غرباً، عاش نيجيرفان سنوات المراهقة والشباب المبكر.

وسط مشهد إقليمي يموج بتحولات الثورة الإسلامية، أتقن اللغة الفارسية، وانفتح على ثقافة مختلفة تمامًا عن بيئته الجبلية الأولى. كان ذلك الانفتاح بمثابة "المحطة الثانية" في تكوين شخصيته، كوردي الجذور، فارسي التعليم، تحيطه جغرافيا عربية تركية مركبة. تجربة مزدوجة صقلت قدرته على العبور بين العوالم دون أن يفقد هويته الأصلية، وهي سمة ستلازمه لاحقًا في مسيرته السياسية.

العودة إلى كوردستان

مع انتفاضة 1991 وانسحاب الجيش العراقي من معظم مناطق الإقليم، عادت عائلة بارزاني إلى كوردستان. في تلك اللحظة، بدأ نيجيرفان يشق طريقه السياسي داخل الحزب الديمقراطي الكوردستاني. كان قد انتُخب عضوًا في اللجنة المركزية عام 1989 وهو في الثالثة والعشرين فقط، ثم أصبح عضوًا في المكتب السياسي للحزب، ليحل محل والده بعد رحيله، وهي أولى المهام الثقيلة، لشغل مقعد رجل قيل عنه إنه لا يعوض في الذاكرة السياسية والاجتماعية الكوردية.

لكن حضوره كان مختلفًا عن جيله. هادئ، قليل الكلام، يفضّل القراءة والتخطيط على الخطابة. ابتعد عن الانفعالات، وركّز على بناء صورة القائد الإداري أكثر من صورة المحارب. هذه السمات لفتت أنظار عمه الزعيم الكوردي مسعود بارزاني، الذي رأى فيه مشروع قائد للمستقبل. أوكلت إليه ملفات تنموية واقتصادية مبكرة، ليحتك مباشرةً بتحديات الحكم اليومي، من البنية التحتية المنهارة إلى فجوات الخدمات العامة.

ساعدته نشأته متعددة اللغات والثقافات على بناء شبكة علاقات إقليمية مبكرة. إلى جانب الكوردية والعربية، كان يتقن الفارسية، وسيتقن لاحقًا الإنجليزية. أدوات لغوية جعلته يتواصل عبر الحدود في وقت كانت القيادة الكوردية لا تزال محصورة محليًا.

ومع نهاية التسعينيات، بات يُنظر إليه كوجه إداري صاعد، وسط كوردستان التي لا تزال منقسمة بين جناحيها في أربيل والسليمانية. كان هدوؤه، وانضباطه، وابتعاده عن الصخب الإعلامي يمنحه احترامًا حتى من خصومه. وصفه أحد مرافقيه في تلك الفترة: "كان يدخل الاجتماعات وفي ذهنه خطة، لا شعار".

نحو نموذج جديد

منذ تلك المرحلة، بدأ يتشكّل ما عُرف لاحقًا بـ"نموذج نيجيرفان"، وهو نموذج مختلف عن السائد، يقوم على بناء المؤسسات أكثر من الشعارات، وعلى التحالفات المدروسة أكثر من المواجهات، وعلى إدراك أن قوة القضية الكوردية لن تأتي فقط من البندقية، بل من تقديم نموذج حكم ناجح يحظى باحترام الداخل والخارج. هذه القناعة ورثها من والده إدريس بارزاني، الذي كان من أوائل الداعين إلى إقامة مؤسسات كوردية قوية بدل الاكتفاء بالمقاومة.

هذا النموذج سيكون لاحقًا حجر الأساس في انتقال من منطق الحزب والقبيلة إلى منطق الدولة والمؤسسات. ومعه، سيُكتب فصل جديد من تاريخ الإقليم.

"بناء وطننا لا يكتمل إلا بتكاتف القلوب والمواقف." نيجيرفان بارزاني

الفصل الثاني.. العبور من الحزب إلى الدولة

في مساء ربيعي من عام 1999، كانت أربيل تشبه مدينة تتنفس على استحياء. الدخان الذي خلّفته سنوات الاقتتال الداخلي لم يختفِ بعد، والخنادق القديمة التي حفرتها الفصائل المتنازعة ما زالت تجرح أطراف المدينة كندوب عنيدة. في ذلك المساء، وبين قاعة اجتماعات بسيطة بأثاث متقشف في مقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وقف شاب في مطلع الثلاثينيات من عمره، يتحدث بنبرة منخفضة لكنها حاسمة:

"لقد آن أوان أن تخرج كوردستان من عباءة الحزب إلى أفق الدولة".

ذلك الشاب كان نيجيرفان بارزاني. ومنذ تلك اللحظة، بدا وكأنه يفتح نافذة في جدار خانق، نافذة على مستقبل مختلف.

منطق التذويب الهادئ

تسلم نيجيرفان رئاسة حكومة الإقليم (إدارة أربيل) عام 1999، في وقت كان فيه الحلم بالدولة أقرب إلى فكرة معلقة بين زعامات حزبية متناحرة وبغداد متقلبة المزاج. لكنه كان مقتنعًا أن بقاء كوردستان مرهون بالخروج من الخنادق الحزبية. لم يواجه الولاءات القديمة بالصدام، بل بما وصفه أحد المقربين منه لاحقًا بـ "التذويب الهادئ"، أي إعادة توزيع الصلاحيات، فرض لوائح وظيفية واضحة، وإحلال تكنوقراطيين شبّان مكان القيادات الحزبية الثقيلة. كانت قراراته الأولى بمثابة شرارة تغيير، أثارت استياء بعض دوائر الحزب، لكنها فتحت الباب أمام تقليد جديد، وهو أن الحكومة مؤسسة.

كان نيجيرفان يعرف أن الشرعية الحقيقية لا تُبنى على قاعدة حزبية فقط، بل على شعور جماعي بالانتماء. لذلك بادر إلى خطوات رمزية لكنها عميقة، حيث توزير أول امرأة في حكومة الإقليم، تعيين ممثلين عن المسيحيين والتركمان والايزيديين. لم تكن مجرد قرارات إدارية، بل إعلانًا أن كوردستان ليست هوية واحدة، بل فسيفساء متكاملة. هكذا، صارت صورته تتكرس كـ"رجل التوازنات"، يحكم باسم الجميع لا باسم الحزب وحده.

الإرث الأصعب كان الاقتتال الداخلي (1994–1998) بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، وكيفية الانطلاق نحو واقع جديد، وهو تغيير نظام البعث، وتثبيت دعامات كيان مزدهر، ورث نيجيرفان هذا الركام، وكان يعرف أن أي دولة لن تقوم فوق صراع كوردي- كوردي. فاختار طريق المصالحة البطيئة، اتفاقيات لتقاسم الإدارة، زيارات متبادلة بين أربيل والسليمانية، لجان وزارية مشتركة. حتى وصل بذلك لعام 2006 بتوحيد الإدارتين، في خطوة اعتُبرت منعطفًا تاريخيًا وضع الأساس لهيكل مؤسساتي موحد.

لكن السياسة وحدها لا تكفي. أراد نيجيرفان أن يرى المواطن ثمار "الدولة" في حياته اليومية. لذلك ربط مشروعه بالاقتصاد، أنشأ هيئة الاستثمار الكوردستانية، أصدر قانون الاستثمار عام 2006، واستقطب شركات نفط عالمية مثل DNO وGenel Energy. وفّر لهم ضمانات قانونية وأمنية نادرة في عراق ما بعد 2003. فجأة، صار الإقليم يجذب رؤوس الأموال، وتحوّلت أربيل إلى سوق ناشئة، ومركز اقتصادي يجد فيه المستثمرون ملاذًا آمنًا وسط بحرٍ مضطرب.

على عكس قادة كثيرين في المنطقة، لم يرغب أن تكون الدولة صورة مكررة لتجارب لم يكتب لها النجاح. فضّل بناء مجلس وزراء جماعي الصلاحيات، ودفع لتداول المناصب، وأرسى قاعدة أن الحزب يصنع النصر، لكن الدولة تصنع الاستمرار. حتى حكوماته خلت من معارضة تقليدية، إذ جمع حوله الجميع، في محاولة لتذويب الاستقطاب داخل مشروع أكبر هو بناء كوردستان.

هذه المقاربة لم تمر دون صدى خارجي. حين أصبح رئيسًا للإقليم عام 2019، قال وزير الخارجية البريطاني جيريمي هنت إن "نهجه التوافقي سيعزز المصالحة في كوردستان والعراق". أما في بغداد، فبات يُعرف بـ "الرجل الذي يمكن التحدث معه"، في إشارة إلى قدرته على تجاوز الحسابات الحزبية إلى لغة أوسع.

لم يكن العبور من الحزب إلى الدولة معركة خاطفة، بل مسار بطيء يشبه بناء سد في أرض رخوة. حجارة فوق حجارة، وصبر يومي يوازن بين ضغط الداخل وهواجس الخارج. أراد أن تكون كوردستان بيتًا يسكنه الجميع، لا خندقًا يحرسه البعض. وفي ذلك، وضع بصمته الخاصة، رجل في الظلال، يفضّل العمل الهادئ على الضجيج، لكنه ترك أثرًا لا تخطئه العين.

الفصل الثالث.. هندسة الاقتصاد والبنية التحتية الحديثة

لم يكن الاقتصاد عند نيجيرفان بارزاني جدولاً من الأرقام ولا بيانات في خطابات رسمية، بل كان جسوراً تُمدّ فوق أنهار طال انعزال ضفّتيها، وطرقات تُعبّد بين قرى لم تعرف الإسفلت إلا بعد عقود من الانتظار. كان يرى أن بناء الدولة يبدأ حين يشعر الفلاح أن محصوله يصل إلى السوق في وقته، وحين يضيء مصباح كهربائي في بيت لم يعرف سوى ظلام الفانوس.

في مطلع الألفية، بدا الإقليم أقرب إلى غرفة إسعاف كبرى، كهرباء تنقطع لساعات وأيام، طرق محفّرة بالكاد تصلح لمرور الشاحنات، وموظفون يقبضون رواتبهم باليد بعد انتظار طويل. وسط هذا المشهد الهش، وضع نيجيرفان هدفاً واضحاً وهو "أن تتحول كوردستان من إدارة طوارئ إلى اقتصاد حيّ قائم بذاته".

كان يدرك أن شرعية أي سلطة لا تُبنى بالشعارات، بل بقدرتها على دفع رواتب المعلمين والموظفين، وتشغيل المصانع، وتأمين الكهرباء والماء.

بعد 2003 عمل على كسر الاعتماد على التحويلات المالية من بغداد. ففي عام 2006، أصدر قانون الاستثمار الجديد، مانحاً إعفاءات ضريبية وضمانات قانونية جذبت موجة من رؤوس الأموال. سرعان ما تغيّرت صورة أربيل ودهوك والسليمانية، حيث الأبراج الزجاجية مكان البيوت الطينية، مجمّعات سكنية مكان الأحياء المتداعية، وأسواق حديثة تعجّ بالماركات العالمية.

لكن البناء لم يكن عمرانياً فقط، كان إعادة رسم خريطة الثقة بين المواطن والدولة. كان يردد في اجتماعاته: "كل كيلومتر من الطريق هو كيلومتر من الثقة". ومع نهاية العقد، تضاعفت شبكة الطرق المعبدة ثلاث مرات، وافتُتح مطار أربيل الدولي الذي صار نافذة الإقليم على العالم، ورمزاً لأمانٍ كان مفقوداً.

ملف الطاقة

عام 2007، وقّع نيجيرفان أول العقود النفطية مع شركات عالمية مثل DNO وGenel Energy، ليتحرر الإقليم تدريجياً من احتكار شركة نفط الشمال. وفي 2013، اكتمل إنجاز خط أنابيب التصدير إلى ميناء جيهان التركي، لحظة اعتُبرت تحوّلاً استراتيجياً، للمرة الأولى، امتلكت كوردستان شرياناً مستقلاً لعائداتها.

أغضبت هذه الخطوة بغداد، لكنها منحت الإقليم القدرة على دفع الرواتب وتمويل المشاريع حتى في أشد لحظات التوتر السياسي. كان يعلم أن الدولة التي لا تتحكم بموردها الاقتصادي ستظل رهينة قرارات العاصمة الاتحادية.

بالتوازي مع النفط، تحوّلت أربيل إلى مركز استثماري وسياحي. افتُتحت عشرات الفنادق الفاخرة، شُيّدت مناطق صناعية حديثة مزودة بالكهرباء الدائمة، وتدفقت شركات خليجية وأوروبية. تقارير اقتصادية وصفتها بأنها البقعة التي يحتفى بها حيث يمتزج المال بالاستقرار الأمني الذي حافظ عليه بعناية.

استثمر نحو 200 شركة إماراتية أكثر من ملياري دولار، إلى جانب شركات تركية وألمانية وبريطانية، جعلت من أربيل وجهة جديدة للتجارة والاستثمار في منطقة تموج بالاضطرابات.

رغم انشغاله بالبنية التحتية، لم ينسَ أن التنمية الحقيقية تُبنى بالعقول لا بالإسمنت. ضاعف الإنفاق على التعليم، أطلق برامج منح دراسية للخارج، وربط المناهج بسوق العمل. في إحدى جلساته الحكومية عام 2014، قال: "نريد اقتصاداً يبنيه أبناؤنا، لا أن نستورد جاهزاً من الخارج".

كانت هذه الرؤية تهدف إلى خلق طبقة وسطى منتجة، تحمل مشروع الدولة على كتفيها، لا أن تبقى عالة على ثروات النفط.

لكن الطريق لم يكن سهلاً. بغداد قطعت الميزانية أكثر من مرة، أسعار النفط انهارت في 2014، وحرب داعش استنزفت الموارد. في تلك اللحظة، تحولت حكومته إلى إدارة أزمة، جمعت بين التقشف المرحلي، والاقتراض الخارجي، وتنشيط الإيرادات المحلية، لتفادي انهيار الدولة الناشئة، حيث استطاع أن يحافظ على الحد الأدنى من الاستقرار.

الاقتصاد كأداة دبلوماسية

لم يكن الاقتصاد مشروعاً داخلياً فحسب، كان أداة دبلوماسية. كل شركة أجنبية تستثمر في الإقليم، كانت تتحول إلى سفير غير معلن لكوردستان في عواصمها. لذلك، كان يقول للمستثمرين في مؤتمراته: "من يستثمر هنا، يصبح شريكاً في استقرارنا".

ومع حلول منتصف العقد الثالث من الألفية، لم يعد الإقليم مجرد تابع للهامش العراقي، بل مركزاً اقتصادياً ناشئاً. طرق ومطارات، أسواق ومصانع، نفط يتدفق من أنبوبه الخاص، واستثمارات أجنبية تحوّلت إلى رافعة سياسية بقدر ما هي اقتصادية.

ورغم بقاء تحديات كبرى كضعف التصنيع والاعتماد النسبي على النفط، فإن بصمة نيجيرفان بارزاني واضحة، رجل هندس اقتصاداً في منطقة كانت تبدو غير قابلة للحياة، وربط كوردستان بالعالم عبر جسورٍ من حديدٍ وأسفلت، وعبر شرايين من نفطٍ وأمل.

لم يكن مشروعه الاقتصادي مجرد رسم خرائط للطرق أو توقيع عقود نفطية على الورق، بل كان يعني أن قرية نائية تضاء للمرة الأولى بعد عقود من الظلام، وأن فلاحًا في سهل خصب يجد نفسه قادرًا على نقل محصوله إلى سوق مدينة دون أن تفترسه الحفر، وأن موظفًا حكوميًا ينتظر راتبه في نهاية الشهر دون أن يطرق أبواب الدين. كانت هذه التفاصيل الصغيرة، التي لا تلتقطها تقارير الاستثمار، هي ما اعتبره نيجيرفان بارزاني المعيار الحقيقي لنجاح أي خطة.

في أحاديثه كان يلمّح إلى ذلك بعبارة تتكرر: "التنمية ليست للأرقام بل للوجوه التي تبتسم حين تفتح الطرق والمدارس".

بهذا المعنى، تحولت البنية التحتية إلى ما يشبه خيط الضوء الذي يربط الجبال بالسهول، والقرى بالمدن، والماضي المثقل بالحروب بالمستقبل المفتوح على الأمل.

الفصل الرابع.. من الطباشير إلى خرائط المستقبل

في صباح خريفي من عام 2012، كان ملعب مدرسة جديدة في أربيل يضجّ كخليّة نحل. أطفال يحملون دفاترهم البيضاء كأنها أعلام صغيرة، يركضون بين أشجار غرست للتوّ، بينما يقف آباؤهم مطمئنين أمام بوابات لم تعد تُغلق بقرارات أمنية صارمة. وفي الداخل، معلمات يكتبن على سبورات مطلية حديثًا:

"ساڵی نوێی خوێندن- العام الدراسي الجديد."

في العام ذاته، كانت قاعة جامعة كوردستان-هولير تحتضن أول دفعة تخرج. شابات بعباءات سوداء يتقدمن بخطوات ثابتة فوق سجادة حمراء، وكلمات تُلقى عن "سوق العمل" و"مستقبل الإقليم". لكن خلف المنصة كان المشهد أعمق، جيل يخرج من ظلال الطباشير ليحمل خرائط المستقبل.

هكذا، بدأ التعليم في كوردستان أشبه بفيلم طويل، لقطاته متتابعة، جرس يرنّ، كتاب يُفتح، جامعة تُبنى، وخطاب يقول:

"التعليم هو العمود الرئيس لأي مجتمع نابض."

لم يكن نيجيرفان بارزاني يرى المدرسة مجرد فصل دراسي، بل جزءًا من "صفقة الاستقرار الكبرى". فالأمن لا ينهض وحده، بل يحتاج إلى تعليم يصنع مواطناً مختلفاً، قادراً على العبور من الماضي إلى المستقبل.

الأرقام هنا ليست إحصاءات باردة، بل علامات على حياة جديدة، حيث عام 2006، كان صافي الالتحاق الابتدائي 56.5%، وعام 2011 قفز إلى 79.1%، فعام 2012 بلغ 80.1%.

ثمانية من كل عشرة أطفال جلسوا على مقاعد الدراسة بعد أن كان نصفهم فقط يفعل ذلك قبل سنوات قليلة. ومعها اقترب مؤشر المساواة بين الجنسين إلى 0.99–1.00، كأن البنات أخذن مكانهن الطبيعي جنبًا إلى جنب مع الصبيان.

هنا المشهد تغيّر جذريًا، المدرسة لم تعد رفاهية، بل صارت جزءًا من روتين يومي. حتى التعليم الخاص بدأ يزدهر، تضاعف عدد المدارس الأهلية بين 2010 و2013، وارتفعت نسبة طلاب القطاع الخاص من 1% إلى 2.5%.

قانون المدارس الأهلية رقم 14 لسنة 2012 أرسى قواعد واضحة، لا تسييس، لا تطييف، إشراف صارم. هكذا ظهرت مدارس دولية في أربيل والسليمانية ودهوك، حيث صار التعليم بالإنجليزية أو الفرنسية خيارًا حقيقيًا، ونافذة لربط الإقليم بالعالم.

انفجار جامعي

قبل 2003، لم يعرف الإقليم سوى ثلاث جامعات: صلاح الدين (أربيل)، السليمانية، ودهوك. بعد 2003، بدأت الولادات المتسارعة:

جامعة هولير الطبية (2005).

جامعة كوردستان-هولير UKH (2006) أول جامعة عمومية باللغة الإنجليزية بمبادرة مباشرة من نيجيرفان بارزاني.

جامعة سوران (2009)، زاخو، رابرين، كرميان، وحلبجة (2010–2011).

الجامعات التقنية "بوليتكنك" في أربيل والسليمانية ودهوك (2012).

الجامعات الأهلية مثل الجامعة الأمريكية في السليمانية (2007)، جيهان (2007)، تيشك/إيشك (2008).

بهذا، تحولت الجامعات من ثلاث جزر معزولة إلى شبكة متكاملة تغطي كل محافظة.

لم يكن هذا التوسع كميًا فقط. في خطاباته الجامعية، شدد نيجيرفان بارزاني:

"من المهم أن تُهيّئ الجامعة طلابها وفق احتياجات سوق العمل والتنمية في كوردستان."

تُرجمت هذه الفلسفة إلى سياسات، حيث توسيع كليات الطب والهندسة والتمريض. إدخال تخصصات جديدة كإدارة المياه والعلوم البيئية. إنشاء معاهد بوليتكنك لتخريج فنيين متخصصين. توسيع برامج المنح الدراسية إلى أوروبا وأمريكا وتركيا.

هكذا، لم تعد الجامعة مصنع شهادات فقط، بل حاضنة لمهارات يحتاجها اقتصاد ناشئ.

الهوية واللغات

في بدايات المشروع، كان السؤال الأكبر، هل سيبقى التعليم كورديًا في جوهره؟ بارزاني أجاب بوضوح:

"نُقدّر كل من خدم اللغة الأم من جميع مكوّنات كوردستان… فهي العنصر الأهمّ في هوية قوية وثقافة حيّة".

لكن هذا لم يكن انغلاقًا، بل انفتاحًا مزدوجًا، تعزيز الكوردية كلغة وهوية، وتشجيع الإنجليزية والفرنسية والألمانية كلغات عبور نحو العالم. مع انتشار الدراسة باللغة العربية التي احتوت النازحين والقاطنين بعيداً عن صراعات الأمس، وهكذا عاش الطالب بين جذور راسخة وأجنحة مفتوحة.

ما سُمّي لاحقًا بـ"العقد الذهبي للتعليم" لم يكن دعاية، بل حقيقة تتحدث بالأرقام، عن ارتفاع غير مسبوق في معدلات الالتحاق، اختفاء شبه كامل للفجوة بين الجنسين، وتوسع شبكة الجامعات إلى أكثر من عشرين مؤسسة حديثة.

لقد صار التعليم سياسة عامة، لا خدمة ثانوية. قاعدة صلبة تشكّلت بين 2003 و2014 مدارس تفتح أبوابها بانتظام، جامعات تتسع سنويًا لجيل جديد، لغات تتعايش لتعكس هوية الإقليم وانفتاحه في الوقت نفسه.

وفي قلب هذا المشهد، برز نيجيرفان بارزاني، لا كموظف يوقّع قرارات، بل كسياسي أدرك أن التعليم هو الاستثمار الأكثر أمانًا، وأن الأمن وحده بلا معرفة هو جدار بلا أساس.

لقد كان العقد الذهبي بداية انتقال التعليم من فصول الطباشير إلى خرائط المستقبل، من الجدران المتصدعة إلى الجامعات الحديثة، من خوف الانقطاع إلى ثقة الاستمرار. كانت تلك اللحظة التي بدأ فيها المجتمع يوقن أن مستقبله لن يُكتب بالبنادق، بل بالأقلام.

الفصل الخامس.. تمكين الشباب

في كوردستان التي خرجت من رماد الحروب، لم يكن الطريق المعبّد ولا الأبراج الزجاجية كافيَين لإقناع الناس بأن الغد ممكن. الجدران العالية لا تحمي إنسانًا هشًّا، ولا المطار الحديث يُقلع بالمستقبل وحده. أدرك نيجيرفان بارزاني أن النهضة الحقيقية تبدأ من الإنسان، من طموحات الشباب، ومن كسر العزلة التي كبّلتهم لعقود.

ففي مجتمع خرج لتوه من الحصار والحروب، حيث كانت خطة أغلب الشباب هي الهجرة إلى الخارج بحثًا عن فرصة مفقودة. لذلك فإن تحويل الإقليم من "محطة مغادرة" إلى "محطة بقاء" كان التحدي الجديد، مقابل فتح فضاءات جديدة، من مكتبات عامة حديثة، مراكز شبابية وثقافية، مسارح وسينمات بدأت تُعيد الحياة إلى المدن. صارت أربيل والسليمانية ودهوك لا تُعرف فقط بأسواقها، بل بمنتدياتها الثقافية وأمسياتها الشعرية وحفلاتها الفنية.

كان بارزاني يرى أن الشباب ليسوا "جمهورًا ينتظر الخدمات" بل طاقة قادرة على حمل مشروع الدولة. لذلك، أطلق برامج تدريبية ومنح دراسية، وفتح أبواب البعثات إلى الخارج، لتتكوّن طبقة جديدة من الشباب المتعلمين والمندمجين في سوق العمل. دعم إنشاء المعاهد التقنية، وأتاح القروض الصغيرة لمشاريع الشباب، وحوّلهم من عاطلين ينتظرون الوظائف الحكومية إلى مبادرين وروّاد أعمال.

الرياضة.. من الملاعب الترابية إلى المنصات الآسيوية

في نظره، لم يكن الملعب الرياضي مساحة لهو، بل مدرسة بديلة لتفريغ الطاقة. لهذا أولى اهتمامًا خاصًا بالرياضة، ودعم الأندية الكوردية التي كانت تواجه صعوبات مالية وتنظيمية. في عهده، لمع نادي أربيل الرياضي إلى أعلى منصات الدوري العراقي محققاً انجازاً تاريخياً، أعقبه بذلك ليصبح أول نادٍ على مستوى العراق يصل إلى نهائي كأس الاتحاد الآسيوي عام 2012، وهو ما اعتُبر فخرًا للإقليم وللعراق كله. كذلك صعد نادي دهوك إلى منصات محلية وإقليمية، في لحظة أعادت الثقة للشباب بأن بإمكانهم رفع علمهم على الساحات الدولية.

لم يكن دعمه ماليًا فقط، بل معنويًا أيضًا، إذ حرص على استقبال الفرق الفائزة وتكريم الرياضيين. كانت رسالته واضحة، وهي أن "الرياضة ليست ترفًا، بل قوة ناعمة تعزز الهوية وتوحد المجتمع".

على الضفة الأخرى، في الوقت الذي كانت فيه أولويات الإعمار تتجه نحو البنية التحتية، لم يغفل عن أن الثقافة هي البنية التي لا تقل أهمية عن الطرق والمطارات. دعم الفنانين والمسرحيين والموسيقيين عبر منح حكومية وصناديق خاصة، وأطلق مبادرات لتمويل معارض الكتب ومعارض الفنون التشكيلية.

معرض أربيل الدولي للكتاب، الذي بات تقليدًا سنويًا، حظي بدعمه المستمر حتى أصبح ملتقى للكتاب الكورد والعرب والأجانب، منصةً للتبادل الثقافي والحوار. كما خُصّصت منح لدعم المبدعين الشباب في مجالات الأدب والمسرح والفنون التشكيلية، إيمانًا بأن الثقافة ليست ترفًا للنخب، بل أساسًا لهوية جماعية.

مجتمع مدني جديد

في ظل هذه السياسات، انتعشت الجمعيات الشبابية والمنظمات المدنية. صار بإمكان الشباب تأسيس منظمات تعمل في مجالات البيئة، حقوق الإنسان، الفنون، والرياضة. كان يرى أن قوة المجتمع لا تُبنى فقط بالمؤسسات الرسمية، بل بجمعيات حرة تعبّر عن صوت أفراده.

فمن التعليم الأساسي إلى الرياضة، ومن الفنون إلى المنظمات المدنية، كان المشروع للشباب أشبه ببناء عقد اجتماعي جديد، مجتمع يرى في الشباب قادة الغد، لا مجرد أتباع. وقد لخّص ذلك في إحدى كلماته قائلاً:

"كل مدرسة تُفتح، وكل ملعب يُضاء، وكل كتاب يُطبع، هو حجر إضافي في جدار السلام".

فبالأمس لم يكن إنجاز نادي أربيل مجرد فوز كروي، بل حدثًا تاريخياً للكورد، كما أدرك أن الهوية لا تُبنى بالسياسة فقط، بل بالكلمة واللحن واللوحة. لذلك، وُضعت برامج منح للفنانين الشباب والمبدعين. تمويل مسرحيات تُعرض في أرجاء كوردستان وقصباتها.

في هذا المناخ، أخذت الفتاة الكوردية موقعًا جديدًا. لم تعد مجرد طالبة في الصفوف الجامعية، بل ناشطة في منظمات المجتمع المدني، قائدة لفريق رياضي، أو مخرجة شابة تعرض أفلامها في مهرجانات أوروبية. هذا الحضور لم يأتِ صدفة، بل نتيجة سياسات شجّعت على المنح الدراسية للنساء، وتخصيص موارد لدعم مشاريع تقودها الشابات في القرى والمدن.

هكذا، صار الشباب في كوردستان جزءًا من معادلة الحكم. في الفصول الدراسية، في الملاعب، في المسارح والمراكز الثقافية، وداخل منظمات المجتمع المدني، ظهرت ملامح "جيل جديد" لا يعيش على ذكريات الحرب فقط، بل يرسم تصورات مختلفة للغد.

الفصل السادس.. المرأة والأقليات وبناء مجتمع التعددية

في قاعة صغيرة بأربيل مطلع الألفية، شهدت لحظة كسر للصمت، حين أعلن نيجيرفان بارزاني عن أول وزيرة في تاريخ الإقليم، لم يكن القرار مجرد توقيع إداري، بل أشبه بفتح نافذة في جدار قديم. المجتمع الذي ظلّ لعقود أسير الحروب والأعراف الذكورية، وجد نفسه أمام مشهد غير مألوف، امرأة تقف في مقعد وزاري، تُقرّر وتُحاسب، لا فقط تُستشار. كانت تلك اللحظة بذرةً ستثمر لاحقًا نهجًا سياسياً كاملاً، لا خطوة رمزية عابرة.

كسر الحاجز الأول

حين تولّى نيجيرفان رئاسة حكومته الأولى، كان الإقليم يعيش انتقالاً هشّاً بين الحرب والسلام. في ذلك المناخ المليء بالتحفظات، جاءت مغامرته بتعيين أول وزيرة وكأنها صرخة تقول إن بناء الدولة لا يكتمل إذا اقتصر على نصف المجتمع. خطوةٌ اعتبرها كثيرون وقتها مجازفة، لكنها تحوّلت لاحقًا إلى سابقة يُقاس عليها.

ومع الحكومات اللاحقة، لم يعد حضور المرأة استثناءً، بل صار جزءًا من تقليد سياسي ترسّخ مع مرور السنوات. حقائب وزارية في التعليم العالي، العمل والشؤون الاجتماعية، البلديات والسياحة، لم تعد حكراً على الرجال. تأسس "المجلس الأعلى لشؤون المرأة"، وصارت السياسات أكثر جرأة في فتح المجال أمام النساء لقيادة مؤسسات كبرى.

لم تكن قرارات نيجيرفان بارزاني محصورة بالتمثيل السياسي، بل امتدت إلى بنية المجتمع نفسه، حيث قروض صغيرة لمشاريع النساء في المدن والقرى، وبرامج دعم لمكافحة العنف الأسري وتوسيع التعليم للبنات، لتنتقل إلى كوتا نسائية بنسبة 30% في برلمان كوردستان.

وفي خلال عقد واحد، تضاعفت مشاركة النساء في التعليم الجامعي والقطاع العام، وقفزت نسبة مشاركتهن في سوق العمل من نحو 12% إلى قرابة 28% في العقدين اللاحقين. لم يعد الحديث عن المرأة تجميلاً للخطابات، بل تحوّل إلى حقائق ماثلة في المهن، في النقابات، وحتى في صفوف البيشمركة التي فتحت أبوابها لعدد من النساء في مواقع رمزية، كسرت المحظور التقليدي.

الأقليات.. من حضور شكلي إلى شراكة فعلية

لكن التعددية لم تتوقف عند النساء. نيجيرفان بارزاني كان يرى أن استقرار كوردستان لا يُبنى بسطوة الأغلبية، بل بشعور الجميع أنهم في بيت واحد. لذلك، وُزّعت مقاعد حكومية وتشريعية على المسيحيين (الكلدان، السريان، الآشوريين)، الإيزيديين، التركمان، الأرمن، والكورد الفيليين، شُرّع "قانون حماية حقوق المكونات الدينية"، ليمنح الأقليات حصصاً مضمونة وحريات واسعة في إدارة مؤسساتهم.

الأمر لم يكن مجرد نصوص. على الأرض، ظهرت مئات الجمعيات الثقافية للمكونات، افتُتحت مدارس تُدرّس بلغاتهم، وعادت عائلات هجّرتها الحروب إلى بلداتها بعد دعم حكومي مباشر. حتى في أشد لحظات العنف الطائفي بالعراق، ظلّت كوردستان أكثر استقرارًا لأنها صاغت عقداً اجتماعياً لا يستثني أحدًا.

في 2014، حين داهم تنظيم داعش سنجار وخطف آلاف الإيزيديين، كان نيجيرفان بارزاني من أوائل من حوّلوا التعاطف إلى عمل مؤسسي. أُنشئ "مكتب إنقاذ الإيزيديين المختطفين"، الذي ساهم في تحرير وإعادة دمج 3,585 شخصاً حتى الآن، بينهم أكثر من 1,200 امرأة. تلك الجهود، التي وثّقتها منظمات دولية، شكّلت علامة فارقة في سياسة الإقليم تجاه الأقليات: ليس فقط حماية رمزية، بل تدخل عملي لحماية الوجود.

لم يكن هذا النهج انعكاساً لرغبة في كسب ودّ الخارج أو تحسين صورة سياسية، بل عن قناعة أن أي مشروع دولة لن يصمد إن لم يشارك فيه الجميع. في إحدى خطابته لخّص هذه الرؤية قائلاً:

"لن تكون هناك كرامة للإقليم إن لم يشعر كل مواطن فيه، مهما كانت ديانته أو قوميته أو لغته، بأنه في بيته."

وقد التقط المجتمع الدولي هذا المشهد بوضوح، تقارير الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عدّت تجربة كوردستان نموذجاً متقدماً في إشراك النساء والأقليات مقارنة بجوارها الملتهب.

بالمجمل، فإنه بالتوازي مع بناء الطرق والمطارات والمصانع، أعاد نيجيرفان بارزاني رسم الخريطة الاجتماعية لكوردستان. نساء في الصفوف الأولى، أقليات في قلب القرار، مكونات دينية وقومية وجدت لنفسها بيتاً أوسع من الانتماءات الضيقة. لم يكن المشروع كاملاً، ولم تخلُ الطريق من اعتراضات ونواقص، لكنه كان تأسيساً لقاعدة مختلفة، أن الاستقرار السياسي لا يُبنى بالقوة فقط، بل بالتنوع المحميّ بالقانون، والمُعاش في الحياة اليومية.

الفصل السابع: كيف صارت أربيل مساحة للكلمة ولمجتمع مدني؟

كان يمكن لقصّة الصحافة والإعلام في كوردستان أن تبقى مجرّد هوامش على دفتر السياسة، لولا أن أربيل اختارت أن تكتب فصلًا آخر، فصلًا تُطلّ فيه شاشات التلفزة من زجاجها الجديد، وتعلو أصوات المذياع كأنها تعيد اكتشاف الهواء، وتتناثر الصحف على المقاهي والجامعات مثل أوراق خريف لكنها لا تسقط بل تنمو.

من قانون إلى ممارسة

في 2007، حين صادق برلمان كوردستان على قانون العمل الصحفي رقم 35، لم يكن الأمر تفصيلًا إجرائيًا. لأول مرة على مستوى العراق، نصّ قانون على منع الحبس في قضايا النشر. بعده بأربع سنوات، جاء قانون المنظمات غير الحكومية رقم 1 لسنة 2011 ليكرّس حرية التأسيس ويفتح الباب أمام الجمعيات لتصبح مؤسسات فاعلة. في بيئة عامة كانت تُضيّق على الكلمة والجمعيات، بدت هذه النصوص مغامرة جريئة.

نيجيرفان بارزاني لم يترك القوانين وحدها تتحدث. في "يوم الصحافة الكوردية" قال بلهجة واضحة: "التزامنا بحرية الصحافة وحماية حرية التعبير ثابت… سنواصل تهيئة بيئة داعمة للصحفيين وضمان وصولهم إلى المعلومات بلا قيود."

لم يكن هذا مجرد خطاب بروتوكولي، بل رسالة إلى الداخل والخارج نصت على أن "الكلمة هنا لن تُلاحق بالرصاص، بل ستُصان بالقانون".

بين 2003 و2010 مثلاً، تضاعف عدد المنابر في الإقليم، أكثر من 850 مطبوعة مسجّلة (صحف يومية وأسبوعية ومجلات) بحسب "مراسلون بلا حدود". ما يزيد عن 15 قناة فضائية خاصة أو حزبية ظهرت في العقد الأول، بحلول 2013، كان في الإقليم مئات منظمات المجتمع المدني مسجّلة، تعمل في الحقوق، الإغاثة، الثقافة، وتمكين النساء والشباب.

هذه الأرقام ليست جافة، كانت وجوهًا، أصواتًا، محابر تكتب، واستوديوهات تبثّ.

أربيل.. منفى الصحفيين

في وقت كان فيه الرصاص في بغداد أسرع من المقال، وتضع الصحفيين على قوائم الموت، وتُغلق الحروب نوافذ التعبير، تحوّلت أربيل إلى ملاذ. عشرات الكتّاب والمحررين الذين طُوردوا في العاصمة والجنوب وجدوا في المقاهي الجديدة ومطابع أربيل فضاءً أوسع. كتبوا مقالات لم يكن ممكنًا نشرها في بغداد، وأطلقوا مواقع إلكترونية ومنصات ثقافية.

كانت المدينة أشبه بـ"سقف زجاجي للكلمات"، يُطرق عليه بقوة، لكنه لا ينكسر. هنا التقت لهجات الجنوب مع نبرات الموصل، وتجاورت هموم الفلاح مع نقد المثقف، وصار للإقليم دور جديد، صوت الذين لا يجدون منبرًا.

وهذا الأمر ليس وليد الصدفة، فبعد 2003، كانت الطائرات تهبط تواً في مطار أربيل وطرق العاصمة الخارجية، وهي تحمل وجوهاً غابت طويلاً عن جبالها وقراها. رجال ونساء خرجوا من سنوات المنفى في أوروبا وإيران وسوريا، يحملون بين أيديهم حقائب صغيرة، لكن داخلها ذاكرة كبرى، صور، أوراق، ومشاريع برؤية كبيرة. عادوا لا ليستعيدوا حياتهم الماضية، بل ليكتبوا بداية جديدة.

عندما، وعلى ضفتي كوردستان وبغداد بدأت تُولد صحف وقنوات وإذاعات، وتُؤسس منظمات مدنية، وتُزرع بذور مجتمع مدني حديث كانوا يرددون أن أربيل لم تعد مجرد عاصمة إقليمية، بل محطة عبور إلى المستقبل، وأن نيجيرفان بارزاني هو من مدّ هذا الجسر، بهدوء وواقعية، ليحوّل الشوق إلى طاقة بناء.

صحيح أن المشهد انقلب بعد عقدٍ من الزمن. في 2014، لم تكن الطائرات تحمل العائدين، بل كانت الطرق تكتظ بالقوافل الهاربة من الموت. جموع من العرب النازحين والأقليات الدينية والعرقية تدفقت إلى مدن الإقليم، تحمل معها قصص الخوف والاقتلاع. هذه المرة، لم يكن السؤال، كيف نعود؟، بل، أين نحتمي؟ تحولت المدارس إلى مخيمات، والساحات العامة إلى بيوت مؤقتة. ومع ذلك، سرعان ما ظهرت مبادرات محلية جمعيات من أبناء هذه الطوائف نفسها، إيزيدية وكاكائية وشبكية تؤسس مراكز ثقافية، كوردية فيلية تبعث ذاكرتها، واخرى مسيحية اختلطت بين دور العبادة ومراكزها الاجتماعية في ظل رعاية سياسية حافظت على فكرة أن الإقليم ليس فقط مكاناً للعودة، بل ملاذاً للهاربين.

في المرحلتين، بدت أربيل وكأنها شاشة تعرض فيلمين متوازيين، الأول عن وطنٍ يستعيد أبناءه من شتات المنفى ليبنوا معه، والثاني عن وطنٍ يفتح ذراعيه لمن اقتلعهم العنف من جذورهم. وفي كليهما، بقيت بصمة نيجيرفان بارزاني كظلّ طويل، أشبه بمخرج يحرص أن تبقى القصة متماسكة رغم تبدّل الفصول.

من الهامش إلى العلن

لكل ما تقدم وما يلي، احتاجت كوردستان لتوثق وتكتب، حيث وُلدت دور نشر في أربيل والسليمانية، وانتعشت معارض الكتب. معرض أربيل الدولي للكتاب تحوّل إلى موسم ثقافي يستقطب الكتّاب الكورد والعرب والعالميين.

ثلاثة عناصر غذّت هذه النهضة، أمان نسبي وتوسّع قاعدة القراء الشباب. صحافة ثقافية ومنصات رقمية جديدة. تعاون مع قنصليات ومنظمات أوروبية دعمت الترجمة والتبادل الثقافي.

وبهذا، فإن الكتاب لم يعد حبيس الرفوف، بل صار جزءًا من المشهد العام، مثل العمارات الجديدة والطرق المعبدة.

ما بناه نيجيرفان بارزاني لم يكن "إعلامًا تابعًا"، بل بيئة يمكن للإعلام أن يتنفس فيها. لم تكن "جمعيات رديفة"، بل قوانين تسمح بالتعددية. ما تحقق خلال عقد لم يكن بلا ثغرات، لكنه منح كوردستان خبرة نادرة في المنطقة، أن الاستقرار لا يصنعه الصمت، بل القدرة على الكلام والتنظيم بحرية ومسؤولية.

الفصل الثامن.. عندما أصبحت أربيل بوابة عالمية

في قلب جغرافيا قبعت بالصراعات، حيث تُرسم الحدود بالدم والخرائط بالبارود، ظهر مسار آخر في كوردستان. لم يكن طريق المدافع، ولا لغة الثأر، بل مسار أراده نيجيرفان بارزاني أن تتحول أربيل من مدينة جريحة إلى "بوابة عالمية"، حيث يلتقي الشرق والغرب، الجيران والخصوم، على طاولة واحدة.

بينما كانت العواصم من حولها تُحاط بالأسلاك الشائكة، كان هو يفتح نوافذ أربيل، يدعو الوفود، ويحوّل قاعات الفنادق الحديثة إلى مسارح مصغّرة للأمم المتحدة. وفي كل زيارة، كان يخطّ لبنة في صورة جديدة للإقليم وهي صورة "الواحة المستقرة" وسط صحراء من الأزمات.

قنصليات وجزر دبلوماسية

عام 2007 أطلق خطة استراتيجية لاستقطاب القنصليات. لم تمضِ سنوات قليلة حتى غدت أربيل تستضيف أكثر من 35 بعثة دبلوماسية وقنصلية، الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، تركيا، إيران، روسيا، الصين… قائمة طويلة لمدن كبرى نقلت ممثلياتها إلى قلب كوردستان.

كان ذلك يعني أمرين في نظره، وهو أن الإقليم لم يعد يعتمد على بغداد كنافذة وحيدة للعالم، وأن المستثمرين سيفهمون أن وجود القنصليات يعني ثقة سياسية، واستقرارًا يستحق المغامرة برأس المال. حيث أن أربيل لم تعد عاصمة إدارية فقط، بل خريطة دبلوماسية جديدة تتقاطع عندها مصالح الشرق والغرب.

المعادلة الأصعب كانت بين أنقرة وطهران. جمع بينهما على أرض واحدة بينما كانا يتنازعان على كل شيء.

في تركيا، صار شريكًا اقتصاديًا في مشروع خط أنابيب النفط المستقل (2013)، وفتح قناة حوار مع رجب طيب أردوغان لم يجرؤ غيره على خوضها. حتى في ملف حزب العمال الكوردستاني، احتضنت أربيل لقاءات غير معلنة بين شخصيات كوردية تركية ومسؤولين حكوميين.

في إيران، استثمر معرفته العميقة بمجتمعها منذ سنوات شبابه في طهران ليُبقي بابًا مفتوحًا للحوار. وعندما حضر تنصيب إبراهيم رئيسي عام 2021، رُفع علم كوردستان إلى جانب العلم الإيراني وهو مشهد صامت لكنه شديد الرمزية.

على الضفة الأخرى، نسج في الإمارات علاقات وثيقة مع محمد بن زايد، وفتح قنوات مع السعودية وقطر والأردن. لم يكتفِ بالزيارات البروتوكولية، بل أقنع رؤوس الأموال الخليجية بأن كوردستان مساحة استثمارية آمنة.

اليوم تعمل أكثر من 200 شركة إماراتية في الإقليم برؤوس أموال تفوق ملياري دولار. لاحقاً استُقبل رسميًا في قصر الشاطئ بأبوظبي على بساط أحمر وحرس شرف كامل، رسالة لا تخطئها العين عن مكانة أربيل الجديدة.

مع الغرب، صاغ شبكة معقدة من العلاقات. مع فرنسا، علاقة استثنائية مع إيمانويل ماكرون الذي وصفه بـ"جيل القادة الكورد الجدد"، واستقبله في قصر الإليزيه ست مرات. توجت بزيارة مقابلة لماكرون إلى أربيل عام 2021 كانت سابقة تاريخية.

مع الولايات المتحدة، حافظ على تواصل رفيع المستوى مع الإدارات المتعاقبة. في دافوس 2020 مثلاً قدّمه ترامب قائلاً: "يشرفني أن أكون هنا مع الرئيس بارزاني من كوردستان". لاحقًا، وصلت رسالة بخط ترامب نفسه يشيد فيها بـ"قيادته الحكيمة".

ولم يتوقف الأمر عند هذه اللقاءات، فقد صار ضيفًا دائمًا على مؤتمر ميونخ للأمن ومحافل الغرب السياسية.

اللحظة الأكثر رمزية كانت في آذار مارس 2021، حين استقبل البابا فرانسيس في أربيل. مشهد قدّاس مفتوح في ملعب "فرانسو حريري" أعطى العالم صورة مختلفة أن هذه الأرض يمكن أن تكون موطناً للتعايش لا للحرب.

أصبحت في أربيل تحتضن مؤتمرات للأمم المتحدة، للاتحاد الأوروبي، ووكالات التنمية. تُناقش فيها ملفات إعادة إعمار العراق، حقوق الأقليات، والتنمية المستدامة.

ما ميز دبلوماسية نيجيرفان بارزاني أنها بلا خطابات صاخبة ولا شعارات أيديولوجية. لم يكن خطيباً جماهيراً، بل رجل كواليس. اعتمد "دبلوماسية الصبر"، حيث بناء الثقة قبل الاتفاق، وتخفيف التوتر قبل المبادرة.

لذلك وُصفت سياسته بأنها "دبلوماسية الجسور"، أي جسور بين أربيل وبغداد، أربيل والجوار، أربيل والعواصم البعيدة. لم تكن تلك الجسور من حجر وأسمنت، بل من ثقة، من وعود تُحترم، ومن قدرة على جمع المتخاصمين في قاعة واحدة دون أن ينهار السقف فوق رؤوسهم.

الفصل التاسع: التحديات والعقبات.. كيف تجاوز نيجيرفان بارزاني المحن السياسية والاقتصادية؟

بعد يوم طويل من الاجتماعات واللقاءات، يجلس نيجيرفان بارزاني أمام خرائط الإقليم، مدارس تتناثر فوق سفوح الجبال، جامعات تمتد في وديان بعيدة، مدن تتسع لقادمين من نكبات الحروب. لكن خلف هذا المشهد، ثمة سحب ثقيلة، رواتب متأخرة، مادة دستورية معلّقة، نزاعات حزبية وحلم نفطي لا يزال معلقاً بين الأمل والتهديد. في هذه اللوحة، لا يظهر كمنتصر على الدوام، بل كقائد يُختبر صبره ومرونته كل يوم، وسط عواصف تهدد ما بُني على مدى عقود.

لعبة الظلّ والضوء

في أروقة أربيل والسليمانية، لم تكن الطاولات مهيأة دائماً للاتفاق. على كل طاولة ملف مفتوح، من يتولى وزارة الثروات الطبيعية؟ من يُشرف على قوات الأمن؟ وكيف تُوزّع الموازنات بين المحافظات؟ هذه الخلافات لم تكن على المقاعد فقط، بل على النفوذ والشرعية نفسها.

لكن نيجيرفان بارزاني لم يكن زعيماً يكتفي بانتظار الوفود في مكتبه. في السياسة، كان يتقن فنّ "الزيارة الخاطفة"، ساعة في مقر الاتحاد الوطني للتفاهم على الملفات السيادية، وأخرى عند الإسلاميين في السليمانية أو أربيل لتطمينهم أنهم شركاء، ثم جولة عند الشيوعيين أو الأقليات لتثبيت أن المعارضة مرحب بها داخل البيت، لا خارجه. لم يكن يسعى لتشكيل حكومات بديكور المعارضة، بل لصياغة ائتلافات تتسع للجميع، حكومات "من دون مقاعد فارغة"، يصفها البعض بأنها "حكومات بلا معارضة حقيقية".

اعترف بارزاني حينها:

"العلاقة بين الأحزاب ليست سيئة لدرجةِ لا يُصلحها الحوار".

الجلسات كانت تُعقد في غرف مغلقة، بعيداً عن الكاميرات، حيث يعلو صوت الحجة أكثر من التصريحات. وهكذا تحوّلت النزاعات من صدام مفتوح إلى مفاوضات طويلة، وأحياناً إلى صيغة "شراكة متعبة" لكنها تحفظ السقف من الانهيار.

كان يُدرك أن أي شرخ داخلي سيُضعف الإقليم أمام بغداد والجوار، لذا حافظ على عادة شخصية، أن يذهب بنفسه عند أول خلاف، لا يوفد مبعوثاً ولا يكتفي ببيان. هذه المرونة جعلته قادراً على تدوير الزوايا الحادة، وبناء صورة عن "رجل التسويات"، القادر على جمع أضداد لا يلتقون عادة.

المادة 140.. وعد لم يكتمل

في دستور العراق 2005، كانت المادة 140 أشبه بمرآة لآمال الكورد، حيث كركوك والمناطق المختلطة ستُحسم بالاستفتاء، وسيعود الحق إلى أصحابه. لكن الوعد ظلّ حبراً على ورق.

قال بارزاني ذات مرة:

"لدينا مادة منصوصة في الدستور، وهي المادة 140، والمنطقة تريد أن تُنفّذ هذه المادة".

لكن الطريق إلى التنفيذ كان مليئاً بالعقبات، خلافات قانونية حول الآليات، مقاومة سياسية في بغداد، صراع على الإشراف الأمني والإداري. بقيت كركوك عنواناً معلقاً، بين نزاع لم يُحلّ، وحلم لم يتحقق.

الرواتب والموارد المالية.. أزمة الثقة

"ما معنى المدرسة إن لم يتقاضَ المعلم راتبه؟"، هذا السؤال تردّد كثيراً في بيوت كوردستان بعد الأزمة المالية التي تلقت اجتياح داعش، واتساع هوة الخلاف بين أقطاب كوردستان وبغداد، سنوات عديدة شهدت فيها الرواتب تأخيرات وخصومات، امتدت أحياناً إلى أشهر. كانت الأزمة تُرهق الأسر، وتضعف الثقة بالحكومة.

بارزاني لم يُخفِ حجم المشكلة، وقال بوضوح:

"أولوية حكومة كوردستان الآن هي كيفية حلّ قضية الرواتب… حق موظفي كوردستان الحصول على رواتبهم شيء أساسي وطبيعي".

لكن الأسباب لم تكن بسيطة نزاع مع بغداد على حصة الإقليم من الميزانية، هبوط أسعار النفط عالمياً، إجراءات اتحادية تقيد صلاحيات التصدير والإدارة المالية. النتيجة، معركة استدامة يومية بين الاحتياجات والموارد.

وهذا الخلاف ما زال قائماً، وفي تصاعد حتى لحظة إعداد الملف.

حلم النفط المؤجل

في قاعات المفاوضات، كان النفط دائماً ملفاً ملتهباً. أراد الإقليم أن يُصدّر نفطه عبر أنابيب مستقلة، وأن يدير عوائده بشكل مباشر. ووقّعت حكومة بارزاني آنذاك اتفاقيات مع شركات أجنبية، وفتحت خطاً مع تركيا عام 2013.

لكن بغداد دفعت في كل مرة، بشكوى عبر المحكمة الاتحادية، وتارة بالتلويح بقطع الميزانية. ما جعل هذا الملف مرهوناً باتفاقات مشتركة.

بارزاني ظل يكرر أن النفط يجب أن يكون "شفافاً وقانونياً"، وأن الاستقلال في الإدارة لا يعني الانفصال عن العراق، بل التعاون على أساس الدستور. ومع ذلك، بقي الملف أحد أكثر أوراق الضغط حساسية حتى اليوم.

البوابة التي لا تُغلق

لكن بالمقابل، ورغم كل هذه العقبات، عرف عنه بين السياسيين في بغداد أنه “يكون عنده دوماً الباب المفتوح” حتى مع من تجاوزوه بمواقف سياسية حادة، ليس فقط المعتادين إلى التفاوض، بل حتى أولئك الذين كانوا في أعمق الخلافات مع كوردستان. جلس معه وزراء، رؤساء أحزاب، أو مسؤولون اتحاديون في بغداد، لوضع الخرائط المشتركة بعد تصدع يطلّ كل موسم.

في مؤتمر “حوار بغداد الدولي” حضر نيجيرفان بارزاني كضيف رسمي إلى جانب رئيس البرلمان ورئيس مجلس الوزراء، وسط قضايا شائكة بين الإقليم والمركز. في كلمته قال:

"ما نريده في إقليم كوردستان وما نأمله أن تتّحد جميع القوى الكوردستانية في بغداد للدفاع عن حقوق الإقليم ضمن إطار العراق الاتحادي... لقد قلنا دائمًا ونؤكّد أن شعب العراق يستحق حياة أفضل".

وليس هذا الكلام مجرد خطاب بروتوكولي، بل إنه مؤشر واضح على أن بارزاني أصبح محطة لا يمكن تجاوزها. عندما تتعطّل المفاوضات بين بغداد وأربيل، أو حين تُثار قضايا مثل النفط أو الرواتب، يُرسل إلى بارزاني رسائل، تُطلب وساطته، حتى من خصوم الأمس، لأنه في أعماق الأزمة يُنظر إليه كمن يربط بين طرفي النزاع أكثر مما يُفصل بينهما.

أدوات الصمود

لم يرد بارزاني أن يسجَّل في التاريخ كزعيم أُسقطته الأزمات بعد عقد ذهبي حيث اعتمد أدوات متعددة، من الحوار بدلاً من المواجهة، حتى مع ألدّ الخصوم. التمسك بالنصوص الدستورية، لتبقى المفاوضات محكومة بالشرعية. التدرج في السياسات، بعيداً عن القرارات المتهورة. الاستجابة الإنسانية في الأزمات، خصوصاً بعد داعش، حين تحولت المدارس إلى مراكز إيواء، وصار الإقليم ملاذاً للنازحين.

هذه التحديات لم تُطفئ وهج "العقد الذهبي"، لكنها اختبرت متانته. بين الرواتب المعلقة، والمادة 140 المؤجلة، وحلم النفط المؤجل، بقيت صورة بارزاني حاضرة، قائد يواجه العواصف ببراغماتية وصبر، باحثاً عن التوازن بين الممكن والمستحيل.

الفصل العاشر: الخاتمة

لم تكن سنوات 2003–2014 مجرّد عقد عابر في دفتر التاريخ، بل أشبه بمشهد سينمائي طويل، تتداخل فيه الألوان بين بريق الأبراج الحديثة وظلال الماضي المثقل بالحروب. كان الإقليم يخطو إلى الأمام، يتعثّر أحياناً، لكنه ينهض في كل مرة، كمن يتعلّم المشي من جديد بعد رحلة نزوح طويلة.

في الجبال التي شهدت مقاتلين ومخيمات، ارتفعت مدارس، وصارت أصوات الأجراس تُنافس وقع الرصاص. وفي السهول التي عبرتها جيوش، شُقّت طرق تربط القرى بالمدن، وامتدّت خطوط الكهرباء والماء. بدا وكأن كوردستان تقرر أن تكتب مصيرها بيدها هذه المرة، لا بوصاية الآخرين.

لكن وراء هذه الصورة، كان هناك ظلّ طويل يشبه شقوقاً في جدار حديث البناء، حيث التجربة لم تكن مثالية بكل شيء، لكنها كانت حقيقية، غنية بالدروس.

بُنيت في كوردستان قاعدة تعليمية صلبة، مدارس تفتح أبوابها بانتظام، جامعات تنتشر في كل محافظة، لغات متعددة تعكس الهوية والانفتاح معاً. الأمن استتب نسبياً، الدبلوماسية وجدت منصتها في أربيل، والاستثمارات الأجنبية رأت في الإقليم ملاذاً آمناً وسط محيطٍ مضطرب.

في قلب هذا المشهد يقف نيجيرفان بارزاني، ليس كمهندس منفرد، بل كمنسّق أوركسترا يعرف أن اللحن لا يكتمل إلا إذا عزف الجميع. جمع الخصوم حول الطاولات، وحوّل النزاعات إلى تسويات متعبة لكنها ضرورية، وأدار حكومات لم تعرف معارضة صريحة. في بغداد، كان محطة يلتقي عندها المتخاصمون، حتى في أعمق الخلافات.

كان يدرك أن السياسة في كوردستان لعبة توازن أكثر منها لعبة غلبة، وأن الاستقرار لا يُصان بالقوة وحدها، بل بفتح الأبواب أمام الآخر، أياً كان.

لقد كانت التجربة أشبه بعمل جماعي كبير، حيث النساء اللواتي دخلن الحكومة لأول مرة، الأقليات التي وجدت تمثيلاً حقيقياً، الصحافة التي رفعت صوتها بلا خوف، والدبلوماسية التي جعلت أربيل بوابة مفتوحة للعالم. في كل زاوية من زوايا هذه التجربة، كان هناك درس، أن بناء الدولة ليس مهمة السياسي وحده، بل مسؤولية مجتمع بكامله.

من هذه التجربة، برزت حقائق لا يمكن تجاهلها، وأن بناء المؤسسات بطريقة عصرية ممكن، وأن الاقتصاد لا يعيش طويلاً على النفط وحده، بل هناك محطات متعددة، أن الحوار مع بغداد والجوار ليس رفاهية، بل شرط للبقاء، وأن التعليم هو العمود الذي يوازي الأمن، لا يقل عنه وزناً.

من المدارس التي امتلأت بالأطفال، إلى الجامعات التي توسّعت في كل محافظة، ومن قانون الصحافة الذي رفع السقف، إلى منظمات المجتمع المدني التي منحت صوتاً للمكونات الهشّة، كانت التجربة ترسم معنى جديداً لـ "الإقليم". لم يعد مجرد مساحة جغرافية، بل مشروعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً يحاول أن يعيش وسط بحرٍ هائج.

اللغة الكوردية وُضعت في الصدارة، لكن الأبواب فُتحت للغات العالم. النفط كان المورد، لكن التعليم صار العمود.

حين يُكتب تاريخ كوردستان في هذا الفصل، سيذكر أن العقد الذهبي لم يكن مجرّد دعاية، بل مرحلة تأسيسية حقيقية، وأن نيجيرفان بارزاني كان في قلبها. سيذكر أن السياسة ليست أن تُشيّد الأبنية فقط، بل أن تُشيّد الثقة.

أربيل، في تلك السنوات، لم تكن مجرد عاصمة، صارت شاشة تُعرض عليها كل التناقضات، قنصليات تُفتح، مهرجانات كتاب تُقام، صفقات نفط تُبرم، وجبال صامتة تراقب المشهد.

الجبال التي عرفت النزوح والحروب، عادت لتشهد المدارس والجامعات وهي تُبنى في سفوحها، وكأنها تقول إن الثبات ليس في الصخر فقط، بل في الإرادة التي تُعيد كتابة المصير.

صحيح أن عام 2014 قلب المشهد. وكان الأصعب على المنطقة ككل وليس الإقليم فقط. اجتياح داعش للموصل والقرى المجاورة جاء كعاصفة، جرف في طريقه ملايين النازحين. فجأة، صارت المدارس مراكز إيواء، وصارت الجامعات تُعطي مقاعدها لمخيمات مكتظة. وجد الإقليم نفسه أمام اختبار لم يتوقعه، هل تستطيع البنية التي بُنيت خلال "العقد الذهبي" أن تصمد أمام طوفان بهذا الحجم؟

كان المشهد قاسياً، طرق تغصّ بالعائلات الهاربة، مدن تتسع فوق طاقتها، موارد مالية تتآكل، ومع ذلك كان هناك من يفتح الأبواب. أربيل ودهوك والسليمانية استقبلت مئات آلاف النازحين، وأُطلقت برامج عاجلة مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. لم يكن ذلك مجرد عمل إنساني، بل برهان أن المؤسسات لم تُبنَ عبثاً، وأنها قادرة، رغم هشاشتها، أن تتحول إلى خطوط دفاع اجتماعية.

نيجيرفان بارزاني، الذي كان قد قدّم نفسه طوال العقد السابق كمهندس للاستقرار، وجد نفسه هذه المرة كـ "مدير أزمة". لم يعد السؤال كيف نبني مدرسة؟ بل كيف نحمي مدرسة من أن تنهار تحت ثقل ألف عائلة؟ لم يعد السؤال كيف نزيد الجامعات؟ بل كيف نمنع جيلاً كاملاً من الانقطاع عن التعليم وسط النزوح؟

بشكل عام، التكاليف الزمنية والعمرية التي تحملها نيجيرفان بارزاني في السياسات الداخلية والإقليمية ثقيلة وبارزة للغاية. فقد قضى أكثر من ثلاثة عقود في نشاط سياسي وقيادي مستمر، وبذل جهودا وتضحيات كبيرة من أجل ترسيخ السلطة، وحل النزاعات، وتحقيق التنمية الاقتصادية، والحفاظ على الاستقرار الداخلي.

إن بطء هذه العمليات يتطلب صبرا، ومثابرة، ومرونة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ما فرض عليه أعباء نفسية وجسدية وعائلية كبيرة. التكاليف المرتبطة بالمفاوضات طويلة الأمد، وإدارة الأزمات، واتخاذ القرارات الاستراتيجية، تُظهر مدى التزامه وإرادته القوية في سبيل تحقيق التنمية والأمن في المنطقة.

ورغم أن هذه التكاليف قد وضعتْه في مسار تاريخي، إلا أنها تثبت أن إدارة الحياة الشخصية والسياسية علاقة لا تنفصل وتتطلب تضحيات مستمرة. وهذا النهج عبر الزمن يبرز عزيمته الراسخة ودوره الفريد في تشكيل مستقبل المنطقة.

تكلفة الوقت والعمر التي أنفقها نيجيرفان بارزاني في السياسات الداخلية والإقليمية ملحوظة للغاية. فعلى مدار عقود، سعى إلى توجيه إقليم كوردستان العراق نحو الاستقرار والتنمية وحماية المصالح الوطنية، وهو أمر تطلّب وقتا وطاقة واستثمارا مستمرا.

وحين يُكتب تاريخ هذه المرحلة، سيذكر أن إقليم كوردستان عاش تجربتين متداخلتين، الأولى وهي بناء مؤسسات حديثة ودبلوماسية نشطة واقتصادٍ ناشئ، والثانية، مواجهة أعنف اختبار وجودي مع صعود داعش. بين هاتين التجربتين وُلدت قناعة أن الاستقرار ليس لحظة تُعلن، بل هو مسار طويل، يحتاج إلى صبر، وتعلّم، وقدرة على النهوض من جديد.

وستبقى الخاتمة لتلك السنوات مفتوحة. لأول مرة منذ عقود، صارت تملك خيارها، أن تُحوّل الدرس إلى مستقبل، ويبقى صوت التجربة يهمس إن الاستقرار يُبنى بالصبر، وإن المستقبل يُكتب بالمدارس مثلما يُكتب بالاتفاقيات.

نيجيرفان بارزاني:

"إن الاستقرار الذي نعيشه هو ثمرة التضحيات المشتركة، ولن يكون بناء كوردستان كاملاً ما لم نحافظ معًا على هذا الاستقرار ونطوّره".