ابن رشد الفيلسوف الذي أضاء العقول وقاوم بالنور

سبتمبر 21, 2025 - 10:28
ابن رشد الفيلسوف الذي أضاء العقول وقاوم بالنور

بقلم: سيروان عبدالكريم علي

في قرطبة الأندلسية، في القرن الثاني عشر الميلادي، عاش رجل استطاع بقلمه أن يؤثر على العالم كله. هذا الرجل هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (1126-1198)، المعروف في الغرب باسم "أفيروس". لم يكن ابن رشد مجرد كاتب عادي، بل كان عالماً موسوعياً جمع في شخصيته الواحدة عدة علوم ومهن، وترك لنا إرثاً فكرياً ما زال يُدرّس في جامعات العالم حتى اليوم.

ما يميز ابن رشد ككاتب أنه لم يحصر نفسه في مجال واحد. فقد كان قاضياً تولى القضاء في إشبيلية وقرطبة، وهذا علمه كيف يزن الأمور بعدالة ويفكر بطريقة منطقية. وكان طبيباً ماهراً ألف كتاب "الكليات في الطب" الذي ترجم إلى اللاتينية وظل يُدرّس في أوروبا لقرون. وكان فقيهاً كتب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" الذي ما زال مرجعاً مهماً في الفقه الإسلامي.

لكن أشهر ما كتبه ابن رشد كان شروحاته لأعمال أرسطو. لقد شرح معظم كتب الفيلسوف اليوناني بطريقة جعلت الأوروبيين يفهمون أرسطو من خلال عيون ابن رشد. ولهذا السبب، أطلقوا عليه لقب "الشارح الأعظم".

هذا التنوع في الكتابة لم يكن صدفة، بل كان يعكس فهم ابن رشد العميق للحياة. فهو آمن بأن المعرفة وحدة واحدة، وأن العلوم كلها تكمل بعضها البعض. الطب يحتاج إلى فلسفة، والقانون يحتاج إلى منطق، والفلسفة تحتاج إلى فهم الواقع.

ما يلفت النظر في كتابات ابن رشد هو احترامه للآخرين، حتى لو كان يختلف معهم. خذ مثلاً كتابه الشهير "تهافت التهافت" الذي كتبه رداً على الإمام الغزالي. الغزالي كان قد ألف كتاب "تهافت الفلاسفة" انتقد فيه الفلسفة بشدة. كان من الطبيعي أن يغضب ابن رشد ويرد بقسوة، لكنه لم يفعل ذلك.

بدلاً من ذلك، كتب ابن رشد: "إن أبا حامد (الغزالي) رجل فاضل، غير أنه لم يحط بصناعة البرهان". هذه العبارة تُظهر ثلاث صفات مهمة في شخصية ابن رشد ككاتب:

أولاً: احترام الخصم الفكري. فهو يعترف بفضل الغزالي ولا ينكر مكانته العلمية.

ثانياً: التركيز على الأفكار وليس الأشخاص. فهو لا يهاجم شخص الغزالي، بل يناقش أفكاره.

ثالثاً: الثقة في قوة الحجة العقلية. فهو يؤمن بأن الحق سيظهر من خلال النقاش الهادئ والمنطق السليم.

هذا الأسلوب المهذب جعل كتابات ابن رشد مقبولة حتى عند خصومه، وساعد على انتشار أفكاره في العالمين الإسلامي والمسيحي.

لم يكتب ابن رشد من أجل الكتابة فقط، بل كان يرى نفسه مصلحاً اجتماعياً يستخدم القلم لحل المشاكل. في عصره، كان هناك صراع شديد بين الفقهاء الذين يرفضون الفلسفة والفلاسفة الذين يُتهمون بالإلحاد. هذا الصراع كان يضر بالمجتمع ويمنع التقدم العلمي.

لحل هذه المشكلة، كتب ابن رشد كتابه الشهير "فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال". في هذا الكتاب، أثبت أن الفلسفة والدين لا يتناقضان، بل يكملان بعضهما البعض. قال إن "الحكمة صديق الشريعة وأخت الرضاع".

هذا الكتاب لم يكن مجرد نص فلسفي، بل كان دليل عملي لكيفية التعامل مع النصوص الدينية بطريقة عقلية. ابن رشد شرح أن الناس ثلاثة أنواع في الفهم: العوام الذين يفهمون النصوص بظاهرها، والمتكلمون الذين يستخدمون الجدل، والفلاسفة الذين يصلون إلى البرهان القطعي. وكل مستوى له طريقته في الفهم، وكلها صحيحة.

في العصر الحديث، وجد المفكر اللبناني فرح أنطون (1874-1922) في ابن رشد مثالاً يُحتذى به. أنطون كان مسيحياً لبنانياً عاش في مصر وأسس مجلة "الجامعة". كان مهتماً بالنهضة العربية والإصلاح الاجتماعي.

رأى أنطون في ابن رشد ثلاث صفات مهمة:

أولاً: العقلانية. فابن رشد آمن بقوة العقل وقدرته على الوصول للحقيقة.

ثانياً: التسامح. فهو احترم الآراء المختلفة ولم يهاجم أحداً شخصياً.

ثالثاً: الإصلاح. فهو حاول حل المشاكل الفكرية في عصره بدلاً من تجاهلها.

لهذا، اعتبر فرح أنطون ابن رشد رمزاً للعقل العربي في أوج قوته، ودعا العرب المعاصرين للاقتداء به.

لم تكن حياة ابن رشد سهلة. في أواخر عمره، واجه محنة قاسية. الحكام الموحدون أمروا بحرق كتبه ونفوه من قرطبة. كتبه التي كتبها طوال حياته احترقت أمام عينيه.

لكن ابن رشد لم ييأس. واصل الكتابة سراً، وقال: "إن الحق لا يُقهر بالقوة، وإن كتب الحكمة ستعود يوماً لتنير العقول". هذا الموقف يُظهر إيمانه العميق بقوة الكلمة المكتوبة وبأن الأفكار الصحيحة ستنتصر في النهاية.

ابن رشد يعطينا درساً مهماً في كيفية الكتابة. فهو علمنا أن الكاتب الحقيقي هو من يجمع بين العمق والبساطة، ومن يحترم القارئ ولا يستخف بعقله، ومن يكتب لخدمة المجتمع وليس لمجرد الشهرة.

كتابات ابن رشد عبرت المحيطات والقرون، وما زالت تُدرّس اليوم في جامعات أوروبا وأمريكا والعالم العربي. هذا دليل على أن الكلمة الصادقة لا تموت، وأن الكاتب الذي يكتب بصدق وإخلاص سيبقى خالداً في قلوب الناس.